دعتني في العام الفائت إحدى الجامعات التركية العريقة إلى ندوة في إسطنبول من حول الإسلام السياسي، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أزور فيها المدينة التاريخية. منذ وطئت قدماي شوارعها وامتلأت عيناي بمشهد آيا صوفيا ومياه البوسفور، أدركت لماذا تربعت هذه المدينة على عرش المدن بتاريخها وموقعها ومبانيها وتعدد ثقافاتها وتنوع ناسها. إنها المدنية الأصل، ومن بعدها تأتي المدن. وكما لا يخلو شارع من شوارعها، في الضفتين، من مشهد امرأة محجبة، فهي تمتلئ كذلك بمشهد النساء الحاسرات الرؤوس. هذا ألف باء التنوع وسنة الحياة الدنيا في شوارع من كانت تباعاً عاصمة الإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية.
مفاجأة من نوع آخر كانت تنتظرني لدى دخولي إلى حرم الجامعة، فباحاتها وردهاتها وأروقتها وقاعات محاضراتها تخلو بالكامل من أي وجود لامرأة محجبة. فأنت هنا أمام مشهد غريب ومصطنع لا تجد مثيلاً له حتى في أعرق الجامعات الغربية. فكأن هذه المدينة العريقة في كوزموبوليتيتها وتعدديتها، تنتزع تنوعها وتلج الجامعة في أحادية قسرية ورتيبة. الطريف أن بلدية اسطنبول، وتجنيباً للنساء المحجبات معضلة نزع غطاء رؤوسهن في الشوارع وأمام الملأ، قامت بوضع أكشاك مؤقتة إلى جانب مداخل الجامعات، تلج الطالبات المحجبات من أحد أبوابها لتخرجن حاسرات الرأس من الجانب الآخر بشكل يسمح لهن باجتياز عتبة الجامعة والحصول على حقهن في التعليم العالي.
علمانوية العسكر
مع أن مصطفى كمال أتاتورك كان من أشد المعارضين لحجاب المرأة المسلمة، إلاّ أنه لم يفرض يوماً على النساء التركيات نزع الحجاب وكذلك فعل أسلافه حتى نهاية السبعينات من القرن المنصرم، في وقت كان فيه الحجاب التقليدي يتراجع تدريجياً بفعل التطور والحداثة. يعود قرار منع الحجاب في الجامعات التركية إلى بداية الثمانينات مع بوادر انتشار الإسلامي السياسي في بعض الأوساط الشبابية، فبعيد الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرالات الأتراك في العام 1980، تم في العام 1982، بحجة الحفاظ على مكتسبات العلمانية الأتاتوركية وتقوية التجانس الثقافي، وضع دستور جديد للبلاد أشرف قادة الانقلاب على كتابة بنوده بدقة صارمة، بشكل يسمح لهم بإبقاء سيطرتهم على مفاصل الحياة السياسية لفترة مديدة ويحد من التنوع الثقافي والقومي، ويحجّم من صلاحيات رئيس الحكومة، ويقلص إلى حد كبير هامش الحريات السياسية والمدنية التي يتمتع بها المجتمع التركي. وأنشئت لهذا الغرض مجالس خارج المساءلة الديموقراطية يتربع على رأسها مجلس الأمن القومي ومن ثم المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للجامعات، وهذه تتحكم في التعيينات وتوجيه السياسات في بعض المفاصل الأساسية للدولة.
لكن نهوض تركيا الاقتصادي وتقدم مفاوضات الشراكة بين تركيا والمجموعة الأوروبية وما فرضته من تغيرات عميقة في بنية الدولة والمجتمع التركيين، ومن ثم وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، دفعت كلها مجتمعة إلى التخفيف من سلطة مجلس الأمن القومي ومن خلفه الجنرالات الأتراك والحد من تدخلهم المباشر في الحياة السياسية. مع ذلك لم يتمكن حزب العدالة والتنمية في فترة حكمه الأولى من تحقيق واحد من أهم وعوده الانتخابية التي تعهد بها إلى الشريحة الأوسع من ناخبيه من أبناء الطبقة الوسطى المحافظة، ألا وهو تخفيف الحظر المفروض على الحجاب في المؤسسات الجامعية، والذي تضطر بسببه الكثير من الفتيات التركيات إما إلى ترك الجامعة أو إلى السفر للخارج من أجل متابعة دراساتهن كما هو الحال مع أبنتي رجب طيب أردوغان اللتين تدرسان في الجامعات الأميركية.
رمزية الحجاب والجانب القهري في محاولة منعه على أيدي العلمانيين المتشددين وصولاً إلى رفض ترشيح عبد الله غول إلى رئاسة الجمهورية بحجة أن زوجته محجبة، كانت من بين الأسباب الرئيسية التي عجلت بالانتخابات النيابية في العام الماضي وتمكن من خلالها “حزب العدالة والتنمية” من تحقيق الغالبية المطلقة في البرلمان، الأمر الذي مكنه لاحقا عبر التحالف مع قوى سياسية أخرى من انتخاب عبد الله غول رئيساً وتجاوز عقبة الثلثين التي فرضتها عليه المحكمة الدستورية.
اليوم يخوض رجب طيب أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” معركتهما الجديدة ونجحا في تنفيذ الوعد الانتخابي القديم في تعديل بعض مواد الدستور للسماح للطالبات التركيات المحجبات بمتابعة تحصيلهن الجامعي من دون أن يكنّ مضطرات إلى نزع الحجاب أو التحايل بوضع الشعر المستعار أو القبعات الخاصة. وذلك بعد تأمين الأصوات اللازمة لهذا التعديل الدستوري. وعلينا أن ننتظر لنرى كيف سيكون رد فعل المؤسسة العسكرية وإلى ماذا ستؤول إليه الأمور؟
يبقى أن رد فعل بعض الأوساط التركية المعادية لرفع الحظر على الحجاب بحجة المحافظة على المكاسب العلمانية للدولة من جهة، ورد فعل الكثير من الأوساط الإسلامية في العالم العربي المحتفية بخطوة رفع الحظر من جهة أخرى، يلتقيان في العمق من حيث آلية التفكير الأحادية والفهم المجتزأ للحرية الفردية وهذا ما سنحاول عرضه في السطور اللاحقة.
الممنوع العلماني
إذا انطلقنا من بديهية حرية الإنسان الراشد في اختيار شكل الملابس التي تتلاءم مع ذوقه وعاداته ومعتقداته وانتمائه الديني والاجتماعي والثقافي، وبالتالي حق الفتاة المسلمة في التحجب أو لا، وفقاً لاقتناعها وتأويلها للنصوص الدينية، فإنه لا يمكن للمرء إلا أن يلحظ مدى الإجحاف الذي يلحق بالنساء المحجبات لجهة حرمانهن حقهن في التعليم الجامعي بحجة تعارض الحجاب كرمز ديني مع علمانية المؤسسات التعليمية. يصل هذا الإجحاف إلى حدوده القصوى عندما يهدد بعض رؤساء الجامعة وأساتذتها الأتراك بالامتناع عن إعطاء المحاضرات إذا كان بين الحضور أي فتاة محجبة!
حقيقة ما يجري، هو إعلاء واحد من التفسيرات الضيقة للعلمانية إلى مصاف قيمة مطلقة متسامية يتم باسمها خرق أبسط حقوق الإنسان لجهة فرديته وحقه الطبيعي في اختيار ملابسه.
تشير الكثير من الدراسات الرصينة إلى أنه في الوقت الذي تشكل فيه النساء التركيات المحجبات نسبة 60في المئة من مجموع النساء، فإن غالبيتهن يضعن غطاء الرأس التقليدي، في حين أن نسبة النساء اللواتي يضعن الحجاب الإسلامي الذي تتميز به التيارات الإسلامية ومن بينها حزب العدالة والتنمية، لا تتجاوز على أحسن تقدير 15 في المئة. وتشير “مؤسسة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية” (Tesev )، وهي واحدة من أهم مؤسسات الأبحاث التركية، إلى أن هذه النسبة انخفضت بين العامين 1999 و2006 إلى حدود 11 في المئة، كما أن نسبة النساء المحجبات بين الأجيال الشابة والمدينية هي في انخفاض مستمر (صحيفة اللوموند 29\5\2007). إذا دلت هذه الأرقام على شيء، فعلى أن مؤشرات الحراك الاجتماعي والثقافي، تستجيب مخاضات سوسيولوجية وسياسية بعيدة كل البعد عن القرارات السلطوية الآتية من رأس الهرم السلطوي العلماني، وأن وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم ومحاولته زحزحة القيود المفروضة على الحجاب لا يعني بالضرورة زيادة نسبة المتحجبات، بل على العكس قد يؤدي مناخ الحرية الجديد وتخفيف القيود القسرية على ارتداء الحجاب إلى انخفاض نسبة المتحجبات نتيجة غياب الأسباب الموجبة لرد الفعل السياسي بالتحجب لدى الأجيال الشابة احتجاجاً على القرارات السلطوية التي تحاول أن تفرض من الأعلى شكل لباسهن.
دائما في سياق المنطق المستند أساسا إلى مبدأ الحرية الفردية وحق الإنسان الراشد في الاختيار الشخصي لشكل ملابسه، يحق لنا أن نتساءل في المقلب الآخر عن مدى مشروعية ما يقوم به الأهل في بعض الأحيان (هذا إن لم يكن في معظمها) لفرض الحجاب بالترغيب (والترهيب) على بناتهن القاصرات اللواتي لم يصلن بعد سن الرشد! وتالياً لم يصلن بعد إلى السن التي تؤهلهن اتخاذ القرار الصائب في ما يخص شكل لباسهن وما يترتب عليه من طقوس وممارسات مجتمعية ودينية تتجاوز ببعيد الشكل الخارجي للفتاة. هنا يصبح من المشروع التساؤل أليس من الأفضل والأسلم أن يترك قرار التحجب من عدمه إلى الفتاة المسلمة لتتخذه بملء إرادتها عند وصولها إلى سن الرشد، بدلاً من أن يفرض عليها غصباً وهي لا تزال قاصرة تارة باسم العائلة وسمعتها، وطوراً باسم المجتمع وعاداته وتقاليده، وأحياناً باسم الدين وبعض التفسيرات التقليدية لآيات الحجاب في القرآن؟
هذا يقودنا إلى محاولة النظر إلى الجانب الآخر من العالم العربي والإسلامي حيث لا قيود بتاتاً على ارتداء الحجاب، في حين القيود، كل القيود، على الفتاة المسلمة التي تتجرأ و تنزع الحجاب بملء إرادتها.
الممنوع الديني
تكشف ردود الأفعال العربية والإسلامية، الآتية من كل حدب وصوب، والتي تدين بمجملها تعسف العلمانية التركية وترحب وتهلهل لخطوة “حزب العدالة والتنمية” برفع الحظر عن الحجاب في الجامعات التركية، عن مدى الازدواجية في المعايير وتهافت أساليب المساءلة والمحاكمة التي باتت تمييز بعض طرائق التفكير في ثقافتنا العربية والإسلامية. كان من الممكن أن يعلمنا النموذج التركي وما يقوم به “حزب العدالة والتنمية” دروس شتى في مفهوم الحرية الفردية وحقوق الفرد والجماعة وكيفية احترام الحرية الشخصية وتوسيع حيزها في إطار المجتمع، لكن الكثير من معلقينا وكتابنا فضّل أن يهلل ويرحب بعودة الوجه الإسلامي إلى تركيا وبتقهقر المبادئ العلمانية فيها.
ما يتناساه هؤلاء، أن رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في الجامعات يجيء في سياق توسيع هامش الحرية الفردية والحق في التعليم ليشمل النساء المتحجبات، وأن هذا الإجراء لا يقيد في أي شكل من الأشكال حرية النساء السافرات وحقوقهن، بل يساهم في توسيع هذه المكاسب والحقوق لتشمل كذلك النساء المحجبات.
يضاف إلى ذلك أن الكثير من البلاد الإسلامية التي يطل ويكتب منها هؤلاء المعلقون والكتاب، تمنع على النساء السافرات، ليس فقط دخول الجامعات، ولكن الخروج إلى الحيز العام من دون حجاب، والحق في العيش والوجود العلني من دون غطاء. هذا ناهيك بالممنوعات التي تخص نصف المجتمع النسائي بأكمله، بمحجباته وسافراته، من مثل قيادة السيارة والسفر من دون محرم وتبوء المناصب المهمة في القضاء والإدارة والسياسة.
ترى ما الفرق بين من يمنع النساء من إكمال تعليمهن الجامعي لأنهن محجبات، وبين من يمنعهن من دخول الجامعة لأنهن سافرات؟ أليس المنطق الإقصائي نفسه هو الذي يتحكم في قرارات الجانبين! لا بل أن الجانب العلمانوي التركي لم يصل في ممارساته إلى المستوى ذاته من العسف، كأن يمنع النساء المحجبات من النزول إلى الشارع والخروج إلى الحيز العام، كما هو الحال في إيران والسودان والسعودية.
إن هذا التناقض الصارخ في موقفنا من الممارسات الخاطئة للعلمانوية التركية وسكوتنا المخجل على ممارساتنا الإسلاموية المماثلة في المضمون والمغاير في الاتجاه، يدلنا إلى خلل حقيقي في فهم حقوق الفرد وحقوق الجماعة وحق الله على الفرد والجماعة. بل يكاد فهمنا الخاطئ والمزمن لمعنى حق الله على عباده أن يقودنا إلى كوارث لا قيامة منها. فكم من قادتنا ومفكرينا وشيوخنا وأهل الرأي والقرار فينا، يتصورن أن الله دائماً إلى جانبهم وأن حقوقه هي حقوقهم وأن من يخالفهم إنما يخالف الله وينال من حقوقه. ومن هنا يبدأ الاستبداد ويسود القهر وتنتشر المظالم.
وإذا كان الله قد قال في كتابه “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، أفليس من الأجدر أن نترك للنساء المسلمات حرية القرار في مسألة الحجاب من عدمه، خصوصاً أن آيات الحجاب في القرآن ملتبسة وتحتمل أكثر من تأويل. حرية الاختيار هي الأساس في أمور العقيدة كما في أمور اللباس، فمن شاءت فلتلبس غطاء الرأس ومن شاءت فلتنزعه.
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري
ما يحجبه عنا الحجاب التركييبدو أنّ الأستاذ الأتاسي لم يأخذ بنظر الأعتبار رمزية الحجاب وفاعليته في المجتمع. ولذلك تعامل مع هذه الظاهرة بليبرالية غير محدودة. وأغلب من ينظر الى الحجاب بأنه فرض ديني يقع في مصيدة الأسلاميين. فاللباس المحتشم وتغطية الشعر حسب الفروض الأسلامية يتعلق بحرية الأديان. هذا امر لا علاقة لنا به. أمّا الأعتراض فهو فقط على هذا الزيّ الموحد. وهو زيّ يبرز الهوية الأسلامويه. فالحجاب الأسلامي يمحو الشخصية الثقافية للمرأة . فالمرأة التي تلبس الحجاب لا تستطيع تمييز انتمائها الثقافي هل هي تركية ام مصرية ام ليبية ام اندونيسية. والأعتراض هو أنّ هذا اللباس يرمز الى الحركة الاسلامية… قراءة المزيد ..