أدّت الأحداث التي تدور على الأرض إلى تجاوز طرح المبعوث الدولي ستافان دو ميستورا. جاء سيطرة الثوار على معسكري وادي الضيف والحامدية قرب إدلب لتؤكّد أن كلّ كلام عن هدنة في حلب تريح القوّات التابعة للنظام السوري هو من النوع الذي لا قيمة له.
لم يكن طرح دو ميستورا بريئا بأي شكل من الأشكال أو مقياس من المقاييس، في حال أخذنا في الإعتبار ردود فعل السوريين العاديين الذين يعرفون ماذا يريدون. والهدف الذين يطمحون إليه.
يعرف السوري العادي بكلّ بساطة أنّ ثلاث سنوات وتسعة أشهر من التضحيات لا يمكن أن تنتهي ببقاء بشّار الأسد في السلطة. هذا غير مقبول من السوريين أوّلا ومن الذين يقاتلون النظام ثانيا وأخيرا. بات الذين يقاتلون النظام والذين يدعمونه على علم تام بنقاط ضعفه وبالوسائل التي يستخدمها من أجل مزيد من المراوغة.
لعلّ أكثر من يعرف ذلك الجانب الروسي الذي ينسّق حاليا مع دو ميستورا الذي يحظى بدوره بدعم اللوبي السوري في الولايات المتحدة. وهذا اللوبي ليس بعيدا عن الأوساط الإسرائيلية التي لا تمانع في استمرار الحرب التي يشنّها النظام على شعبه إلى ما لا نهاية وذلك بغية التؤكّد من أنّه لن تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام.
يعتبر سقوط المعسكرين اللذين كانا يعتبران من بين الأكثر تحصينا في سوريا حدثا في غاية الأهمّية. وادي الضيف نفسه كان يوصف بأنّه أقرب إلى إسطورة وقد فشلت محاولات عدة لإسقاطه في السنوات الثلاث الماضية، خصوصا أنّه كان في محاذاته من كان يتظاهر بأنّه يقاتل النظام، في حين أنّه كان في واقع الحال من العاملين لديه والداعمين له بكلّ الوسائل.
كان سقوط وادي الضيف والحامدية بحجم سقوط مطار الطبقة العسكري ومعسكر الفرقة ١٧ قرب دير الزور. كانت الفرقة التي تضمّ عددا كبيرا من الضباط والعناصر العلوية تعتبر من أهمّ الفرق التابعة للنظام ومن أفضلها تسليحا.
بعد الآن سيجد النظام والذين يدعمونه صعوبة في إيصال امدادات إلى القوات التابعة له والتي تسعى إلى استعادة السيطرة على كلّ حلب، أو أقلّه على جزء اساسي منها.
في كلّ الأحوال، انكشف المبعوث الجديد للأمم المتحدة باكرا. لم تعد البضاعة التي يعرضها قابلة للتسويق، خصوصا أن الوضع على الجبهة الجنوبية، أي في درعا والغوطة ومحيط القنيطرة يتطوّر لمصلحة الثوّار، مع فارق أن حضور “الجيش الحرّ” على طول هذه الجبهة أفضل بكثير من حضوره في مناطق الشمال. ففي الشمال، هناك الوجود القوي لـ”جبهة النصرة” التي تعتبر جزءا لا يتجزّأ من الحركات المتطرّفة، علما أن سلوكها على الأرض ليس بسوء سلوك “داعش”.
باختصار شديد، لا تحتاج سوريا في الوقت الراهن إلى خطط من نوع تلك التي طرحها دو ميستورا لحلب. كلّ ما تحتاجه هو إلى وضوح في الرؤية من منطلق أن النظام السوري انتهى وذلك بغض النظر عن كلّ المساعدات التي تؤمّنها له كلّ من روسيا وايران ومن يلوذ بهما. إنتهى النظام السوري في اليوم الذي لم يجد فيه ما يواجه به المراهقين في درعا غير القمع. إنتهى في اليوم الذي ثارت درعا ودمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور وحتّى اللاذقية.
انتهى النظام عمليا في اليوم الذي لم يعد سرّا أنّه نظام طائفي ومذهبي أوّلا وأخيرا وأنّه لولا تدخّل “حزب الله” والميليشيات الشيعية العراقية لمصلحته بطلب ايراني مباشر، ومن منطلق مذهبي بحت، لكانت العاصمة تحرّرت من سطوته منذ فترة طويلة.
هناك حرب مذهبية في سوريا، وإذا كان المطلوب تسمية الأشياء بأسمائها، لا يمكن للعلويين الإنتصار في هذه الحرب، ما دامت الأكثرية الساحقة من السنّة ترفض استمرار هيمنتهم، كما ترفض استمرار هيمنة آل الأسد واقربائهم على مقدرات البلاد. هناك بكلّ بساطة رفض شعبي سوري لبقاء البلد سجنا كبيرا ومزرعة لدى عائلة من العائلات والمحيطين بها من المنتمين إلى مذهب معيّن.
كشفت الثورة السورية حقيقة كلّ الشعارات، من نوع “الممانعة” و”المقاومة” التي استخدمها النظام من أجل تبرير وجوده طوال ما يزيد على أربعة وأربعين عاما. صار كلّ شيء ظاهرا للعيان في سوريا. لم يعد سوى سؤال واحد: من يريد إطالة عمر النظام الذي لا يمتلك ما يتحاور به مع شعبه غير البراميل المتفجّرة؟
الجواب الصريح أنّ لا قرار كبيرا، أقلّه إلى الآن، بتحرير دمشق. الدليل على ذلك ردّ فعل الرئيس باراك أوباما الذي تجاهل فجأة الخطوط الحمر التي وضعها عندما استخدم النظام السلاح الكيميائي في محيط دمشق صيف العام ٢٠١٣.
في حال كانت حاجة إلى صراحة أكثر، يمكن القول أنّه لا قرار أميركيا يسمح بتوجيه ضربة قاضية للنظام. هذا ما لا يدركه، أو ما يدركه تماما، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، مثلما أنّه يتظاهر بعدم إدراك أن التطورات على الأرض تجاوزت طرحه.
الأخطر من ذلك، أنه كلّما بقي النظام في دمشق، كلّما قويت “النصرة” و”داعش” وكلّ القوى المتطرفة التي يعتقد النظام أنّها تخدم مصلحته نظرا إلى أنّها تظهره في مظهر من يشارك فعلا في الحرب الدولية على الإرهاب.
يقول الواقع عكس ذلك تماما. يقول الواقع أنّ أي اطالة المأساة السورية عبر الإمتناع عن وضع خطة واضحة قابلة للتنفيذ تفضي إلى الإنتهاء من النظام ومن على رأسه، هو أفضل خدمة للتطرّف والمتطرفين الذين سيزداد عديدهم بعد نجاح “النصرة” في اسقاط معسكر وادي الضيف، في وقت تولت مجموعات أخرى على رأسها “حركة أحرار الشام” أمر معسكر الحامدية. كلّما تحققت انتصارات من هذا النوع، زاد عدد السوريين المنضمين إلى التنظيمات المتطرفة. هل جاء دو مسيتورا إلى سوريا لتنفيذ هذا المخطط الذي لا تبدو الإدارة الأميركية بعيدة عنه؟ بكلام آخر، هل جاء من أجل إطالة الحرب في سوريا، بما يكفل تفتيتها نهائيا؟ لعلّ هذا أسوأ ما في الموضوع السوري هذه الأيّام…