من الطبيعي التأكيد على أن الطائفية هي سلوك ديني إلغائي، بمعنى أن يقوم طرف ديني يمثل الأغلبية في المجتمع بإلغاء طرف ديني آخر يعيش معه، عبر وضع العراقيل أمامه لمنعه من الحصول على حقوقه الأساسية، الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها. ومن ثم، لا يمكن في ظل العيش في مجتمع مدني يسعى لضمان حقوق جميع مكوناته الاجتماعية، إلا إدانة السلوك الساعي إلى إلغاء حقوق الأقلية الدينية استنادا إلى أن رؤية الأغلبية لتلك الحقوق تخالف صريح النص الديني، إذ لا تستطيع مثل تلك التفسيرات الإلغائية أن تعيش إلا في ظل المجتمع الديني الذي تحكمه قوانين دينية لا تهتم بالتعددية الثقافية والاجتماعية. ولا شك أن أي سلوك طائفي يكفّر الأقلية الدينية أو يستهزئ بطقوسها أو يقلل من شأنها هو سلوك مرفوض ولابد من معالجته، لكن السؤال هو حول كيفية العلاج.
إن الطائفية قد لا تتجلى فحسب في سلوك الأغلبية، بل إن سلوك الأقلية الدينية قد يكون طائفيا وإقصائيا أيضا، وهذا ما نرى أمثلة له في المجتمع الكويتي وفي المجتمعات المجاورة. فمعضلة بعض الذين يشتكون من الطائفية في الكويت ويئنون من ظلم الأكثرية الدينية، هي أنهم يمارسون أنواعا من الإقصاء داخل بيتهم الديني، ويسكتون عن الممارسات الطائفية الإقصائية في بعض المجتمعات المجاورة.
لذا يقف هؤلاء على أرضية ثقافية هشة، لأنهم يفتقدون المعايير التي تتحقق من خلالها صور التعايش. فهم يطالبون بحقوق مجتمعية دينية تعايشية، لكنهم لا يبالون أن يدوسوا على تلك الحقوق كلما أصبحت الحلقة الدينية أصغر وأضيق. وفيما ينتقدون الأوضاع الطائفية في مجتمعهم، يسكتون عن أوضاع شبيهة في مجتمعات مجاورة.
ومن ثم، لا يمكن لمفهوم الطائفية أن يُجزّأ أو أن يُسيّس، بل يجب أن يكون باعثا على رفض أي سلوك إقصائي. فكما أن ظلم الأكثرية السنية ضد حقوق الشيعة مُدان، لابد أن يكون ظلم الأكثرية الشيعية ضد حقوق السنة مُدانا أيضا، ولا بد من نقد الذات الطائفية قبل أي نقد للطائفية الخارجية.
إن الصوت الطائفي العالي – حتى لو كان صاحبه ينتمي إلى الأقلية الدينية المذهبية – يظهر على السطح بوضوح حينما يتبني خطابه الإعلامي الدفاع عن الموضوعات الدينية المذهبية باعتبار أنها تفوق في الأهمية الموضوعات التي تخدم الشأن الوطني، أو أن يتم إغفال الأخطاء الطائفية للأقلية المذهبية في المجتمع ويتم التستر عليها بعدم نقدها فيما تتم الإشارة بوضوح إلى الأخطاء الطائفية للطرف المذهبي الآخر الذي يعكس الأغلبية، أو أن يكون الصوت الطائفي الإعلامي أعلى وأقوى من الصوت الوطني وأهم من المصلحة الوطنية، وأن يتم التعامل مع القضايا الخلافية المذهبية بصورة قائمة على “التقية”.
كما يتجلى الصوت الطائفي بوضوح حينما يغمض هذا المنبر الإعلامي عينيه عن الأخطاء الحكومية، سواء في سياساتها أو تكتيكاتها، ولا ينتقدها بتاتا ويدافع عن صحيحها ويتجاهل خطئها بمختلف الطرق، بحجة أن الصوت الحكومي مؤيد للطائفة ومساند للمذهب، ما يعكس الإعلام غير الصادق المزيف، وهو ما قد يؤثر على سلامة الأمن الاجتماعي والقومي في البلاد.
كذلك يتوضّح الصوت الطائفي لهذا المنبر الإعلامي من خلال عدم إشارته إلى انتهاكات حقوق الإنسان لدى أنظمة معينة في المنطقة بحجة أنها تنتمي إلى الطائفة، وأن يتم “استقصاد” فضح انتهاكات حقوق الإنسان لبعض الأنظمة المغايرة معها في المذهب، أو أن يتم التركيز على معاداة قوى كبرى لأنها تعادي في سياساتها أنظمة طائفية معينة.
إن الإشارة إلى الواقع الشيعي الجديد في الكويت، وتقسيمه إلى فئتين، إحداهما تدافع عن المصالح المذهبية الشيعية في ظل تبنّيها خطابا هادئا ومعتدلا يراعي خصوصيات المجتمع الكويتي، وفئة أخرى تحمل نفس الهم لكنها تتبنى خطابا طائفيا عاليا قد لا يراعي تلك المكونات، لا يمكن أن يعتبر دعوة للتفريق بين الشيعة، بقدر أنه مسعى لتحليل الأمور بصورة واضحة وشفافة، لإيصال رسالة للمواطن، الشيعي وكذلك السني، مفادها أنه رغم وجود هذا الصوت الطائفي العالي في المجتمع، فهو لا يمثل الصوت الشيعي بمجمله، بل يجب الالتفات أيضا إلى الصوت الهادئ المعتدل البعيد عن ألاعيب السياسة ومناورات المصالح التجارية. وإذا كان البعض يعتقد بأنه لابد من الانتماء العضوي الديني إلى الطائفة الشيعية “كشرط” لتحليل الواقع الشيعي في الكويت، فإنه يجب منع كل المنتمين إلى المذهب الشيعي من التطرق إلى الشأن السني، وعلى الليبراليين عدم الاقتراب من الساحة الدينية، وعلى الإسلاميين الابتعاد عن موضوعات العلمانية!! إن هذا الاعتقاد بمثابة دعوة واضحة وصريحة للوصاية على الآراء وإلغاء بعضها.
إن من السهولة بمكان بالنسبة للغالبية العظمى من المنتمين إلى التيار الديني، الشيعي والسني، أن يلغوا أشخاصا من المذهب والطائفة والملة والدين لأنهم تبنوا نهجا فكريا مغايرا أو رأيا مختلفا أو تحليلا لا يتماشى مع ما يتبنونه، وكأن الدين والمذهب والطائفة ورموزها حكرا على فئة خاصة، وتحركها المصلحة، وأن هذه الفئة هي الوحيدة الناطقة باسم الدين والمذهب، في تأصيل واضح وصريح لنهج الإقصاء. فثقافة الإقصاء، إقصاء التحليل والحوار والنقاش والبحث، باتت الوسيلة الوحيدة التي يستطيع أن يتشبث بها البعض الذين لا يرون الحق إلا فيهم وعندهم. وإذا كان الشيعة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة في الكويت قد انقسموا إلى فئتين، مثلما قلنا، فإني أستطيع بكل وضوح أن أصف الفئة المتبنية للخطاب الطائفي العالي بأنها “الشيعية السلفية الجديدة”، لأنها تصنف وبكل سهولة جميع المختلفين معها بأنهم خارج الدين والملة والمذهب، وكما هو معلوم في التاريخ الشيعي فإن الكثير من المبادرات التي قام بها بعض الشيعة لنقد الوضع الشيعي التقليدي السلفي الطائفي جوبهوا بالصد ومورس ضدهم العنف والإلغاء.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com