لعل أول ما يخطر على البال – ولعله أول ما يتم تجاهله عمدا – عند التطرق لموضوع الإرهاب هو تعريف الإرهاب والعمل الإرهابي والمجموعات الإرهابية.
هذا التعريف الذي لم يصل العالم لصيغة موحدة يتم اعتمادها بشأنه أصبح مسألة نسبية تخضع للمصالح والتوجهات السياسية والاقتصادية للدول، حتى تلك التي تتصدر العالم في موضوع مكافحة الإرهاب، دون أن يكون مصطلحاً له علاقة بالقانون أو الإنسانية أو الأخلاق . فيمكن، عبر ذلك، تجاهل وتبرير إرهاب كبير فاضح ودائم، منظم وممنهج تديره أنظمة دول بكل مصادرها الكبيرة، وملاحقة إرهاب صغير ومحدود وآني تديره مجموعة صغيرة ضعيفة ومحدودة التمويل.
مما يخلق ازدواجية خطيرة بتصنيف الإرهاب وملاحقته تنعكس سلبا على محاربة الإرهاب، بل أنها يمكن أن تخلق بيئات مناسبة لنشوء إرهاب جديد وبأشكال جديدة.
لذلك لا بد بداية من وضع تعريف للإرهاب واضح ومحدد يتم اعتماده عالمياً. وسأحاول وضع مثل هذا التعريف ومناقشة التعريفات التي يعتمدها السياسيون لتعريف الإرهاب لتبرير غض بصرهم، بل دعم أعمال إرهابية تخدم مصالحهم، والتركيز على أعمال إرهابية أخرى تهدد هذه المصالح.
الإرهاب حسب وجهة نظري: (هو عمل يستخدم فيه العنف لترويع أو قتل أو تهجير مجموعة أو أفراد من المدنيين العزل، من قبل مجموعة ما، ولا تخضع لمرجعية قضائية محايدة تحاسبها، بغض النظر عن كونها جهةً لها شرعية دولية من عدمها، تتخذ هذا الأسلوب منهجاً لها ووسيلة لتحقيق أهدافها، بغض النظر عن أحقية هذه الأهداف وشرعيتها من عدمه.)
العمل الذي يستهدف المدنيين العزل هو عمل إرهابي بكل الاحوال، وهذا شبه متفق عليه عالمياً. ولكن تختلف الاجتهادات والمواقف بعد ذلك حسب طبيعة من يقوم بهذا العمل، وهدف هذا العمل.
فتختلف المواقف الدولية من هذه الأعمال الإرهابية. فإذا كانت دول عضو بالمجتمع الدولي، فيتم التعامل بالمسألة بطريقة مختلفة عن مجموعات غير شرعية ناشئة وموجودة بحكم الواقع حتى لو كانت هذه الدول ليس لديها قضاء مستقل ولا تتجاوب مع المطالب الدولية ولا تلتزم بالأعراف والاتفاقيات والمرجعيات القضائية الدولية.
فعلى سبيل المثال فإن دولاً كالنظام في سوريا تمارس الأعمال الإرهابية بشكل مكشوف بترويع السكان طيلة خمسين عاما وقتلهم بمختلف أنواع الأسلحة حتى المحرمة دوليا منها وتهجيرهم من مناطق محددة بما يشبه التطهير العرقي، وليس لديه قضاء ومرجعية مستقلة يمكن اللجوء لها لوقف هذا العمل أو محاكمة مرتكبيه، ولا تعترف بالصلاحية القضائية الدولية، ودعمت وتدعم بشكل علني منظمات ومجموعات مصنفة إرهابية لدى دول العالم كحزب الله وحماس وحزب العمال الكردستاني وغيرها، ومع ذلك استمر العالم بالتعامل معه ولم يتم وصفه بالإرهابي ولم يتم اتخاذ أي اجراء لوقف إرهابه ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها.
وكذلك النظام في إيران فإنه يتبنى علناً وجهاراً تنظيمات مصنفة إرهابية، ويدعمها ويحركها بكل بقاع المنطقة والعالم. وكذلك اسرائيل فإنها تستهدف المدنيين بقصفها، وتمارس الترويع والتهجير والاستيطان، ومع ذلك يقف العالم متفرجا على هذه الأعمال الإرهابية بحجة أنها دول ذات سيادة، والعلاقات يحكمها القانون الدولي وموافقة مجلس الأمن. بينما ينتفض العالم كله متأهبا عسكريا واقتصاديا ويضرب بعرض الحائط بالقانون الدولي ومجلس الأمن حين قيام مجموعات إرهابية كداعش والقاعدة وحماس وبوكو حرام والحوثيين وغيرها بممارسة عنف لا يتعدى 1% من الأعمال الإرهابية التي تمارسها هذه الدول. وهذه الأمثلة غيض من فيض في العالم. ولماذا اهتز العالم عند مشاهدة إعدام الصحافيين الأمريكيين جيمس فولي وستيفن سولوتوف من قبل داعش، ولم يهتز عندما قتل الطبيب البريطاني عباس شاه خان في سجون النظام السوري بطريقة بشعة بعد أكثر من سنة بالاعتقال رغم أنه حظي بتغطية إعلامية؟
وتختلف المواقف كذلك حسب أهداف هذه المجموعات. فمنهم من يعتبر أن الأهداف المشروعة المحقة تبرر الأعمال الإرهابية إذا كانت هذه الأهداف ضمن مشروعه السياسي، والآخر لا يبررها باعتبارها تناهض مشروعه السياسي. فدول مثل روسيا والصين والنظام السوري وإيران وغيرها تدعم حزب الله والمنظمات الفلسطينية والحوثيين وغيرهم، ويبررون أعمالهم الإرهابية بحجة أن هدفها مشروع ولرفع الظلم اللاحق بها. والغرب يغض النظر عن أعمال المجموعات المسيحية أو التي تطالب بالديمقراطية والليبرالية بنفس الذريعة والحجة، كما حدث بيوغسلافيا السابقة ولفترة طويلة قبل أن يتحرك العالم. إذاً – الغاية تبرر الوسيلة – هو المبدأ الذي يتم التعامل بموجبه مع هذه الأعمال الإرهابية وهو مبدأ خطير جدا ليحكم العالم به ويؤدي إلى فوضى كبيرة لا يمكن تدارك نتائجها لاحقا ولا السيطرة عليها.
وتختلف المواقف والتبريرات حسب اختلاف النظرة للمدنيين. فمنها من يرى أن المدنيين هم الحاضنة الأساسية للمجموعات العسكرية، وبالتالي هي جزء من المجموعات العسكرية المباح استهدافها، فيتم تبرير الأعمال الإرهابية تبعا لهذه النظرة.
إن اختلاف وجهات النظر في تصنيف الإرهاب والمجموعات الإرهابية حسب الميول والمصالح السياسية يضع جدارا قويا أمام كل جهود محاربة الإرهاب التي يتفق العالم عليها بالعلن، بينما تقوم كل جهة بدعم مجموعة إرهابية مختلفة بحجج مختلفة حسب وجهة نظرها بمسألة الإرهاب.
وبالتالي فإنه تحت شعار محاربة الإرهاب حسب التصنيفات المختلفة تُرتكب عمليات إرهابية، وتُخلق ظروف جديدة لنشوء مجموعات إرهابية جديدة بأهداف جديدة، وتُعزز البيئة التي تحتضن الإرهاب بل تُوسعها، كما حصل أبان الدخول الأمريكي للعراق، أو في محاولات اسرائيل محاربة الإرهاب المزعومة.
بالإضافة لكل ذلك فإن محاربة الإرهاب بمحاربة التنظيمات التي تمارسه دون الوصول لمعالجة الظروف والبيئة السياسية والحواضن التي تساعد على نشوئها وتدعمها كمن يعالج داء سرطان الدم – اللوكيميا – بتغيير الدمّ دوريا دون الوصول للخلايا الجذعية التي تولد الخلايا المرضة. فتكون آلاما كبيرة دورية دون نتيجة حقيقية بإنقاذ حياة المريض. يجب أن تتلازم محاربة الإرهاب عسكريا مع محاربة البيئة والظروف التي تنتج إرهابيين وأفكار إرهابية. ومحاسبة كل من يدعم أو يحرض أو يوجد بيئة جغرافية أو إنسانية لنشوء الإرهاب. وهذا لن يتم إلا إذا تم إنشاء مؤسسة عالمية مستقلة لمحاربة الإرهاب تسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية دون أي محاباة أو أهداف سياسية وتكون قراراتها ملزمة للمجتمع الدولي كله وليس مجرد توصيات كما هو حال هيئات ومؤسسات حقوق الإنسان . ومؤسسة قضائية دولية لمحاكمة مرتكبي العمليات الإرهابية بغض النظر عن موقعهم وجنسيتهم.
إن هناك علاقة جدلية قوية بين حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب. فكلما انتشرت وتدعمت مبادئ حقوق الإنسان، وتم إيجاد طرق فاعلة سلمية لحماية هذه الحقوق، تتراجع البيئة التي تولّد الإرهاب وتتراجع أسباب نشوئه وتزداد حجما البيئة التي تحاربه.
كما أن محاربة الإرهاب هو في حقيقة الأمر إرساء لمبادئ حقوق الإنسان وحمايتها من أي انتهاك وإن نجاح المجتمع الدولي بإرساء قواعد جامعة ومؤسسات جدية فاعلة لمحاربة الإرهاب سيشجع على إعطاء دور أكبر وفاعل وحقيقي لمؤسسات حقوق الإنسان لتقوم بدورها الذي وُجِدت من أجله لحماية حقوق الإنسان في العالم ومحاكمة منتهكي هذه الحقوق بغض النظر عن موقعهم.
وللحديث بقية…….
* المحامي أنور البني هو
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
(الصورة: لوحة تصوّر مجموعة إرهابية أنزلت ركّاب باص من “الهازارا” (الشيعة) واغتالتهم قرب “كويتا” في ٣٠ يوليو ٢٠١١. سقط في هذه الجريمة ١١ قتيلاً).