مع انهيار السلطنة العثمانية في مطلع القرن الماضي وبداية الانتدابين الفرنسي والبريطاني على المنطقة، التقى البطريرك الياس الحويك أحد مهندسي العالم الذي خرج منتصراً من الحرب العالمية الأولى، الجنرال كليمنصو، وأكّد أمامه خيار الموارنة في لبنان، طالباً مساعدة فرنسا لتحقيقه: قيام دولة لبنان الكبير التي ينتسب إليها الفرد بوصفه مواطناً، وليس بوصفه مسلماً أو مسيحياً! (راجع كتاب:وثائق البطريرك الحويك السياسية، لبنان 2013، الوثيقة 32 الصفحة 118).
قيمة هذا الخيار التاريخي تتمثّل في أنّ من شأنه فتح الطريق لنقل الموارنة ومعهم أقليات المنطقة من مرتبة «رعايا» أو أقليات باحثة عن حمايات من هنا أو هناك، إلى مرتبة مواطنين، على غرار النموذج الغربي، يَحميهم القانون ويضمن حقوقهم الدستور. وبذلك يكونون قد تحرّروا من قيود الوصايات المتعاقبة التي ظنّوا أنها توفّر لهم الحماية عبر العصور ليتبيّن في ما بعد أنها إنما كانت تَحمي مصالحها.
اليوم، وبعد نحو مئة عام، تبدو منطقتنا على عتبة إعادة رسم معالمها الجيوسياسية، في ظلّ موازين مختلفة، أهمّها إنهيار النظام العربي القديم في سوريا والعراق واليمن وتونس ومصر، وتراجع ملحوظ لتأثير الأطر العربية التضامنية في صناعة قرار المنطقة، وبروز قوى إقليمية غير عربية (روسيا ـ تركيا ـ ايران ـ إسرائيل) تحاول تقاسم النفوذ في المنطقة على غرار معاهدة «سايكس ـ بيكو» القديمة تحت مسمّى «إعلان موسكو»… وعليه فإنّ غالبية أقليات المنطقة، لا سيما المسيحية والشيعية، تحاول أن تبني على هذا الشيء مقتضاه… وذلك بانحياز معظم قياداتها السياسية والدينية إلى «التوازن الجديد» الذي تعتبره ناجزاً وعنواناً أكيداً للمرحلة المقبلة، تحت شعار «تحالف الأقليات ضد الأكثرية» (تأمّلوا مشهد الكنائس المسيحية الشرقية في مؤتمر واشنطن لحماية الأقليات في أيلول 2014).
وفي هذه المرحلة يسَجَّل تراجعٌ ملحوظ للكنيسة المارونية وتقدّم نسبي للكنيسة الأرثوذكسية من خلال حضور روسيا، بعد الاتحاد السوفياتي، بشكل وازن في أحداث المنطقة.
طبعاً هناك مَن يعتبر أنّ حضور روسيا «التوسّعية» في المنطقة هو حضور مضخّم ومرهون بوقت ضائع أميركي امتدَّ بين فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية واستلام الإدارة الجديدة في 20 كانون الثاني 2017.
ويرى هؤلاء أنّ تسارع الأحداث التي تدَحرجت في بلدان عدة، من انتخاب العماد ميشال عون بمظلّة إيرانية وتشريع «الحشد الشعبي» في العراق من قبل مجلس النواب وسقوط حلب، إنما أتت من أجل تجميع أوراق روسية ـ إيرانية تخوّل الثنائي التفاوض مع الإدارة الجديدة من موقعٍ أفضل… هذا مع تزاحم روسي ـ إيراني على قيادة تحالف الأقليات، ومع إشكالية الدور التركي المناور.
وأصحاب هذه الرؤية يستهينون بقبضة المثلث الإقليمي على المنطقة، ويعتبرون أن لا نهائيّات سياسية حتى الآن، وأنّ المنطقة في مرحلة إنتقالية رجراجة، قد تنام على شيء وتستفيق على شيءٍ آخر.
وعلى أي حال، وبصرف النظر عن القراءة السياسية، فإننا نسجّل بمرارة غياب الكنيسة المارونة عن أحداث المنطقة في هذه المرحلة!
وهنا لا داعي لابتكار أو اختراع أدوار جديدة لهذه الكنيسة.
إن لهذه الكنيسة العربية العريقة أدبيات، وإرشادات باباوية، ورسائل وخلوات مع بطاركة الشرق، وأوراق عمل المجمع البطريركي الماروني ما يكفي لتحديد الدور تلقائياً من دون البحث عن أفكار جديدة.
دورها هو في المساهمة في بلورة كل مفاهيم العيش المشترك الذي لا معنى للبنان من دونه. وهي مدعوة اليوم الى التزام سلام لبنان وسلام المنطقة. سلام المنطقة يصنعه من بنى عقيدته الفلسفية على السلام، لا الحرب…
وإنّي لأدعو الكنيسة المارونية ومعها الكنيسة الجامعة الى استبدال ما فعله إقحام الكنيسة الأرثوذكسية العريقة في تاريخها في هذه المنطقة والتي ليس من شأنها صناعة أباطرة جدد في الشرق!
فللكنيسة المارونية تراث في بلورة خيار الاستقلال المرتكز على العيش المشترَك ولا يجوز التخلّي عنه؛ وللكنيسة الأرثوذكسية التزاماتٌ وعهودٌ لا يجوز ربطها بصوَر أنظمةٍ استمرّت بالعنف والدعم الخارجي.
عودوا إلى مشروع الحويك، فلا بديل عنه!
جريدة الجمهورية