قد لا نختلف بأنه قبل استلام رجب طيب اردوغان (رئيس الحكومة التركية) الحكم، كانت تركيا تعيش في الأزمة من كل النواحي، حيث كانت على مفترق الطرق: طريقها إلى الاتحاد الأوربي غير سالك ، علاقاتها مع الجوار كانت سيئة للغاية ، سلوكها ( سلوك الدولة ) متوتر ومتحسس من كل شارد ووارد ،علاقات مجتمعاتها الداخلية متصارعة ومتصادمة ، نظام الحكم كان يدار من قبل العسكر والحركة القومية، اقتصادها كان متعباً ، وكانت في وضع لا تستطيع اتخاذ أي قرار استراتيجي بالنسبة لمستقبلها. والحق يقال، فقط علاقاتها مع إسرائيل كانت على ما يرام.
وقد لا نختلف أيضا مع احد انه وبعد مرور سنوات من حكم اردوغان، شهدت تركيا تغييرات سواء أكانت على مستوى القوانين (الدستور) او على مستوى علاقاتها الأوربية وعلى مستوى علاقاتها مع الجوار. لكن، وبالمقابل، لم يستطع حزب “العدالة والتنمية” ان يقول بأنه حقق حلمه في نقل تركيا “الى مرحلة الدولة الذكية”. ولا يستطيع هذا الحزب ان يثبت بأنه نجح بإعطاء صورة جميلة وذكية لإسلامه، الذي تحدث الكثيرون بما فيها أميركا بأنه نموذج جيد للمنطقة.
والحق ان حكومة “العدالة والتنمية” نجحت في الحفاظ على علاقة مع إسرائيل وإن اصطدمت هذه العلاقة بمطبات هوائية، لكنها بقيت واستثمرت في أكثر من جهة، ولأكثر من مرة لصالح العرب وإسرائيل. عملت تركيا على خط الوساطة بين الأطراف المتصادمة. اكشتفنا مدى برغماتية اردوغان رئيس السابق لبلدية عاصمة الاقتصادية لتركية اسطنبول، ومدى ذكائه وداهيته. استطاع ان يمسك العصا من الوسط ، رأيناه وهو ينتقد تصرفات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والقدس، ورأينا أيضا كم انه متحفظ على السياسات العربية، وهو يظهر عدم رضى من تعاطي العرب مع مسائلهم. المختلف مع العدالة والتنمية لا يستطيع النكران بان اردوغان استطاع ان يحضر بلده بقوة في أي اجتماع وأي محفل دولي،. رأيناه كيف يتعاطى مع المسألة اللبنانية: تعلن تركيا مشاركتها في قوات “اليونيفيل” ومن زاوية أخرى تشترط عدم مقاتلة عناصر حزب الله. وهذا الوضع ينطبق على أفغانستان أيضا. أما في موضوع الملف النووي الإيراني، فتركيا تكتم مواقفها. حتى الآن لم تعط رأيا صريحاً ، لم تنضم إلى “الحلف السني” في المنطقة، مع إنها سنية. استطاعت ان تجامل السعودية ولم تقل بأنها ضد هذا “الحلف”. لها علاقات مع دول ما تسمى بدول الممناعة ( سورية ، إيران ..)، وما زالت علاقاتها جيدة مع الدول الـ”معتدلة” (مصر، سعودية ،الأردن ). علاقاتها مع سورية تشهد تحسناً يوما بعد اليوم، مع أن العلاقة شهدت بعض التحسن من قبل استلام اردوغان، كون اتفاقية الأمنية بين الدولتين تسبقه بحقبة. لكن هذه العلاقة (السابقة) بدت على أنها جامدة وكانت معرضة للسقوط. مع وجود اردوغان في الحكم لبست هذه العلاقة زياً آخر، فتحسنت العلاقات مع سوريا – بالمقابل لم تنقطع مع آل الحريري والاميركان. ونرى اليوم اللجان تعمل على مستويات عديدة وتخفّف حدة التحسس واانعدام الثقة بين البلدين. زائر سورية يعرف مدى حجم تواجد الأتراك في المدن السورية. فتبادل الزيارات يتم بشكل يومي، ونمت علاقات السياحية والتجارية. ودخل تعاون الأمني بين البلدين في طور النشاط والحيوية. سلمت سورية عشرات من مناصري حزب العمال الكردستاني لتركيا، ومن جانب آخر أغلقت تركيا أبوابها أمام الإخوان المسلمين. ولا يمر اليوم إلا وتصادف مسؤولاً تركيا في مدينة حلب أو دمشق.
أما مع العراق فتحسنت العلاقات بشكل معقول أيضا، وإن انتقد اردوغان نفسه وانتقد برلمانه لأنه لم يتخذ قرار بالسماح بمرور القوات الاميركية من أرضيها(2003)، وأدعى أنه بسبب ذلك خسرت تركيا نفوذاً واسعاً في العراق. حسب رئيس العراق جلال الطالباني، فإن:” تركيا تشهد أحسن رئيس وزراء لها في تاريخها الحديث”. لكن يبدو ان مقولة الطالباني لم تؤثر على عاطفة اردوغان! فهو يشن حربا دبلوماسية ضد اكراد العراق، مثلما يهدد العسكر الاكراد وينذرون باجتياح ويحتشدون على حدود كردستان العراق. ومثلما لم يؤثر كلام الطالباني على مواقف اردوغان من كردستان العراق، فان الزخم التركي في كردستان العراق (حيث 400 شركة تركية تعمل في كردستان العراق فقط ومئات من الطلبة الأتراك يدرسون في الجامعات الكردية وثلاث أرباع مطاعم كردستان تحت إشراف العمالة التركية) لم تستثمر لصالح تحسين العلاقة بين البلدين، وشريحة واسعة من الاكراد يحملون سبب تأخير تنفيذ البند 140 من الدستور العراقي الخاص بتطبيع الأوضاع في كركوك لتركيا والدبلوماسية التي تتخذها. على عكس كلام العسكر عن اردوغان، فان المراقبين يقولون ان تركيا استعادت النفوذ في العراق. تركيا اليوم لها علاقات قوية مع الطبقة السياسية العراقية وتموّل وتدعم “الجبهة التركمانية”، وهي تحاول ان لا يصل الكرد الى مآلهم . استطاعت ان تؤثر في الذهنية الاميركية في ملفها مع الاكراد, وإن لم تستطع الدخول الى كردستان وضرب مواقع حزب العمال الكردستاني فإنها استطاعت إن تؤسس لجنة متابعة العمال الكردستاني. والآن هناك لجنة ثلاثية تراقب عن كثب وضع العمال الكردستاني. وقد استغلّت العلاقة مع العراق استطاعت ان تغلق مقرات ومؤسسات العمال الكردستاني في بغداد والموصل وكركوك، ولاسيما مركز “أوجلان” للدراسات.
والحق ان مواقف حكومة العدالة والتنمية من التطورات الكردية في العراق أصبحت سببا في عدم احتواء اردوغان للمسألة الكردية في تركيا بالرغم من انه الوحيد الذي تجرّأ على الإعتراف بتواجد الكرد في تركيا واعترف بنواقص الدولة تجاههم. فقد زار دياربكر (عاصمة أكراد تركيا) عدة مرات، وألقى الخطابات هناك. ولكن هذه الخطابات لم تترك أثراً ايجابياً في الوعي الشعبي، مع ان الاكراد شهدوا في زمن العدالة والتنمية امتيازات عديدة، فلم تعد اللغة الكردية من الممنوعات، وهناك صحف وإذاعات ناطقة بالكردية .
لأول مرة يحدث لقاء بين الجالية الكردية في أوربة ورئيس الوزراء تركيا. فقد اجتمع اردوغان مع مؤسسة رجال الأعمال الاكراد في لندن. لكن، في الوقت نفسه، لم تقف مؤسسة الجيش مكتوفة الأيدي. فما ان يتّخذ اردوغان موقفا ايجابيا حتى يقوم الجيش بحملة تمشيط الواسعة في المدن والقصبات الكردية. انصار اردوغان يعددون ما حصل من التغيير الحاصل في حقبة العدالة والتنمية، ويقولون بان الوضع الاقتصادي تحسّن تحسننا وسعر الليرة أفضل. كما تقلص نفوذ العسكر في الحياة السياسية والمدنية. حتى على المستوى الحجاب والزي الإسلامي، ةبتشجيع من اردوغان، أخذت عدد من شركات الألبسة على عاتقها ان تؤسّس زيّاً إسلامياً متمدنا وحديثاً متأقملاً مع التطور الذي حصل. فلم يعد في تركيا زي إسلامي يدعو للإشمئزاز .
انعكست هذه السياسة التغييرية إيجابا على سمعة تركيا أوربياً وعربياً. فهذه السياسة شجّعت الإتحاد الأوربي على الدخول في طور المفاوضات معها. أي أنه في زمن هذا الحزب رئيس الحكومة ردوغان، استطاعت تركيا ان تحقق جزءاً من حلمها القديم الجديد: مفاوضات ولقاءات قائمة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، وقانون جمركي خاص ومميز يحكم العلاقة بين الطرفين… الخ.
وبالرغم ما ذكر في أعلاه عن ايجابيات حكم العدالة والتنمية، فثمة ملاحظات جمة عن الحقبة:
أولا: أن ما كان يقال عن مصالحة الإسلام والعلمانية هو أمر شبيه بالهراء، وضرب من ضروب الخيال. الأحداث التركية تثبت بان لا تصالحا فعليا بين الإسلاميين والعلمانيين. وابرز مثال الشجار الذي حصل قبل الأيام بين الكتلتين.
ثانيا: وضع الإسلاميين كوضع العلمانيين. فالطرفان لم يستطاعان ان يخرجا انفسهما من المأزق الذي هما فيه،. العلمانيون منقسمون على انفسهم، والاسلاميون ايضا. فما زال حزب “الرفاه” ينظر الى العدالة والتنمية كخصم، وما يزال اربكان يحتفظ بموقفه من “العدالة والتنمية”.
ثالثا: في حقبة اردوغان لم يحصل تغيير جذري على صعيد القوانيين حيث ما زال المسيحيون في تركيا لا يحق لهم تسجيل ممتلكاتهم المؤسساتية باسمائهم وبهويّتهم المسيحية.
رابعا: الاغتيال العنصري او السياسي استمرّ كما الحال في حقبات سابقة. مثل الإغتيال العنصري بحق الصحفي الارمني الليبرالي، وقبله اغتيال الصحفي موسى عنتر.
خامسا: صحيح انه حصل تقدم في ملف انضمام تركيا الى النادي الاوروبي، الا ان الوضع يراوح مكانه. فالمفاوضات مجمدة منذ اشهر عديدة، والسبب عدم جدية تركيا في تغيير القوانين الخاصة بحقوق الجماعات والانسان، كالاكراد والعلويين والارمن والمرأة.
سادسا: اثبت السجال التركي الحالي انه ما زال هناك شرخ واسع بين تركيا الاوربية وتركيا الاسيوية. فالولايات الشرقية الاسيوية (تُعرّف بجماعة الحجاب) لم تشهد أي تنمية. ولا يلاحظ الزائر أية خدمات في تللك المناطق. كما ان الولايات الغربية الاوربية (تُعرَف بجماعة “المايوه”) ما زالت تنفر من الاسلام ولا تقبله. ولعل المظاهرات الاخيرة هي الدليل القاطع على ان الوضع ظل هو نفسه. بمعنى ان سياسة اردوغان لم تستطع اجراء أي تغيير في ذهنية المجتمعات: الكردي ينظر الى نفسه انه كردي قبل ان يرى انه ينتمي الى وطن اسمه تركيا، وكذلك الإسلاميون، وكذلك القوميون المتطرفون.
سابعا: وهي اهم ملاحظة، ان تركيا ما زالت تحت قبضة العسكر وبامكان العسكر ان يفعل الكثير دون اللجوء الى انقلابات. ولعل ايام الاخيرة أثبتت ان القوانين تغيّرت شكليا، وليست صحيحا ان العسكر خفّف قبضته على الحياة المدنية والعسكرية. هذا فضلا انه في حقبة اردوغان شهدت تركيا إرتفاعاً غير مسبوق في مكانة رئيس الجمهورية. ففي حين كان ينظر الى رئاسة الجمهورية على أنها منصب رمزي، أصبح اليوم بوسع رئيس الجمهورية فعل الكثير. فهو يتلكّأ في الكثير من القرارات، وله تأثير واضح على العملية السياسية في تركيا.
بقي القول ان الزمن سيثبت ان تركيا في طريقها الى اهتزازات جذرية. وهي عدا عن انها في الطريق الى تغيير في بنية النظام السياسي، فانها أيضاً في طريق التغيير في البنية المجتمعية. والاهم ان نرى أين ستتجه تركيا بعد هذه النقاشات، وبعضها قانونية أو كيدية أو جهوية، ومنها من ينطلق من خلفيات الثقافة والايديولوجيا.
faruqmistefa@hotmail.com
* كاتب سوري