لعل الأهمية العظمى التي يحوز عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، تقوم على انه قدّم للبشرية جمعاء وثيقة هائلة هي بمثابة تأسيس لعصر جديد في تاريخ العالم، أتت تعبيراً عن إجماع عالمي قلّما حدث مثيل له هنا أو هناك من العالم تاريخاً وراهناً.
تمر الذكرى السنوية لصدور الإعلان في 10/12 من كل عام وسط احتفال معظم الشعوب بها، كل على طريقته، وتحيي بعض الأنظمة الديمقراطية أيضاً هذه المناسبة باحتفالات رسمية بسيطة يشارك فيها المحامون والقضاة وممثلون عن السلطة..
النظام السوري احتفل بالذكرى أيضاً، لكن على طريقته الخاصة: حملة إعتقالات واسعة طاولت أعضاء “المجلس الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” في إطار عملية أمنية واسعة وفريدة من نوعها نفذ فيها جهاز مخابرات أمن الدولة عمليات الإعتقال في مختلف المحافظات السورية في وقت واحد (متزامن) كانت حصيلتها ما يقارب أبعون معتقلاً من مختلف المحافظات والتيارات والأحزاب السياسية.
فما دلالة هذه العملية وما سبب حنق النظام على معارضته وامتعاظه من مجرد إجتماع ضم بعض شخصياتها؟؟
لا يبدو من سبب واضح لشن هذه الحملة سوى أن النظام لم يستطع تقبل فكرة أن المعارضة السلمية المدنية قد هزمته، أو على الأقل استطاعت أن تكسب هذه الجولة، فهي عقدت مجلسها الوطني الأول في منزل النائب والمعتقل السابق رياض سيف رغم تشديد درجة الرقابة على النشطاء، من مراقبتهم شخصياً الى مراقبة هواتفهم والتجسس على بريدهم الإلكتروني وو…وضم الإجتماع شخصيات وطنية من مختلف التيارات السياسية في المجتمع السوري من قوميين ويساريين وليبراليين وإسلاميين ديمقراطيين، الأمرالذي يعتبر حدثاً بارزاً في التاريخ السوري المعاصر من حيث أنه أكبر اجتماع من نوعه يعقد داخل سورية ضمن ظروف منع الاجتماعات المعارضة والمستقلة وإغلاق جميع فرص التعبير عن الرأي الآخر التي فرضتها السلطات الأمنية السورية منذ أواسط عام 2005.
ناهيك عن البيان الختامي الذي صدر عن المجلس الوطني المنتخب والذي رأى أن الأخطار الداخلية والخارجية باتت تهدد السلامة الوطنية ومستقبل البلاد أكثر من أيّ وقت مضى، وأن سياسات النظام ما زالت مصدراً رئيساً لتفاقم هذه الأخطار، من خلال استمرار احتكار السلطة، ومصادرة إرادة الشعب، ومنعه من ممارسة حقه في التعبير عن نفسه في مؤسسات سياسية واجتماعية، والاستمرار في التسلّط الأمني والاعتداء على حرية المواطنين وحقوقهم في ظل حالة الطوارىء والأحكام العرفية والإجراءات والمحاكم الاستثنائية والقوانين الظالمة بما فيها القانون / 49 / لعام / 1980 / الذي يحكم بالإعدام المنتسبين الى جماعة الإخوان المسلمين، والإحصاء الاستثنائي لعام / 1962 / الذي حرم آلاف الأكراد من حقهم في الجنسية السورية، ومن خلال الأزمة المعيشية الخانقة والمرشحة للتفاقم والتدهور، التي تكمن أسبابها الأولى في الفساد وسوء الإدارة وتخريب مؤسسات الدولة، وذلك كله نتيجة طبيعية لحالة الاستبداد المستمرة لعقود طويلة.
والجدير بالذكر أن المجلس الوطني عقد إجتماعه في الأول من الشهر الحالي، وأصدر بيانه الختامي مباشرة، لكن السلطات لم تباشر بحملة الإعتقالات إلا في اليوم العاشر(ذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) لما لهذا اليوم من دلالة واضحة في الرسالة المراد توجيهها الى المعارضة الوطنية الديمقراطية، إضافة إلى اعتمادها على إعتقال النشطاء من مختلف المناطق والتيارات السياسية.
صحيح أن السلطات أطلقت معظم الذين أعتقلتهم خلال أربع وعشرين ساعة، لكنها لا تزال تحتفظ بثلاثة معتقلين هم الدكتور أحمد طعمة من محافظة دير الزور، وقد تمّ انتخابه مؤخراً بأمانة سر المجلس الوطني لإعلان دمشق وهو معتقل منذ مساء الأحد 9/12/2007 والأسـتاذ جبر الشوفي من محافظة السويداء، وقد انتخب مؤخراً في عضوية. الأمانة العامة لإعلان دمشق وهو أيضاً معتقل منذ مساء الأحد. والأسـتاذ أكرم البني وهو معتقل سياسي سابق لمدة تجاوزت السبعة عشر عاماً، كاتب و محلل سياسي و له الكثير من المقالات المنشورة في الصحف و الدوريات المختلفة، وهو شقيق المحامي المعتقل أنور البني أحد أنشط المدافعين عن حقوق الإنسان، الذي صدر بحقه مؤخراً حكماً بالسجن لمدة خمس سنوات (معتقلين من عائلة واحدة)، ثم توجت هذه الإعتقالات باعتقال د.فداء الحوراني يوم الأحد 16/12، إبنة الراحل أكرم الحوراني (أحد مؤسسي حزب البعث الحاكم) التي انتخبت مؤخراً كرئيس مكتب المجلس الوطني في إعلان دمشق، ونقلها ليلاً من محافظة حماة إلى إدارة مخابرات أمن الدولة في دمشق، ثم اعتقال الكاتب علي العبد الله من منزله (معتقل سابق، ووالد الطالب عمر العبد الله المحكوم بالسجن لخمس سنوات مع مجموعة من طلاب جامعة دمشق لمحاولة إنشاء تجمع شبابي ديمقراطي).
فإقدام السلطات على شن حملة الإعتقال والإحتفاظ ببعض المعتقلين فقط، مع العلم أنه ليس هناك مسوغات تبرر ما حصل، مع الأخذ بعين الإعتبار التطمينات التي حصل عليها النظام من الولايات المتحدة الأميركية في أنابوليس، والتصريحات التي تلت المؤتمر وكان آخرها على لسان وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس يوم الأربعاء 12/12 إذ أعلنت أن دور سوريا في عملية السلام في الشرق الاوسط بعد مؤتمر انابوليس “سيكون مساعدا”، لا يبقي أمامنا غير تخمين أسباب هذه الحملة، وهي بعث رسالة إلي المعارضة من مختلف الأطياف، تعلمها أن النظام يؤكد تصرفه بصفته نظاما أمنياً صرفاً، وسيذهب إلي أبعد حد يمكن ـ أو لا يمكن ـ تصوره، بما في ذلك الاعتقال الجماعي والإخفاء القسري وربما تصفية من يعارضونه.
ma.abdallah2007@gmail.com
* كاتب وناشط حقوقي سوري.