كنت قد كتبت يوم تكليف الرئيس ميقاتي لتشكيل الحكومة، وفي ظل يوم الغضب السنّي، مقالاً دعوت فيه الرئيس سعد الحريري الى التروي لا بل الابتهاج بالهدية القيمة التي قدمتها له قوى القمصان السود: حكومة الميقاتي. و كنت قد توقعت مساراً للمدى القريب وما ستؤول اليه الامور، وقد اثبتت احداث الاشهر الماضية صحّة توقعاتي وان بطرق مختلفة الى حد ما. كنت متفائلاً بالنسبة الى الخطوة، والانقلاب، اللذين قامت بهما قوى 8 آذار، اعتبرت ذلك نوعاً من فك عزلة 14 آذار وازاحة الحمل الثقيل عن كاهلها الذي دأبت تلك القوى على وضعه. فقد القت هذه القوى الانقلابية مسؤوليات وأوزار المرحلة الممتدة ما بعد 2005، بكافة ابعادها الاقتصادية والاجتماعية، على كاهل قوى الاستقلال الثاني للبنان. علماً بان هذه الاخيرة لم تستطع ممارسة السلطة و لو ليوم واحد…! فممارسة السلطة هي جزء اساسي من فرض السيادة ان لم تكن كله. فالدولة الحديثة بالمفهوم “الفبرياني” هي الكيان الذي يمتلك حصرياً استعمال العنف الشرعي. والحال، فان الخطوة الوحيدة التي قامت بها حكومة الرئيس السنيورة لفرض سلطة الدولة جوبهت بالحملة العسكرية التي كان عنوانها “استعمال السلاح للدفاع عن السلاح”.
ميقاتي وزر على حزب الله
كنت قد اعتقدت بانه فيما لو استطاع الرئيس ميقاتي تشكيل حكومته فان عمرها لن يكون طويلاً حيث ان الملفات و الاستحقاقات المنتظرة دونها عقبات كثيرة، واول المنقلبين عليها سيكون حزب الله. ففيما لو تشكلت الحكومة العتيدة، لكنّا اليوم امام حكومة تصريف اعمال لا اكثر و لا اقل او، بأحسن الاحوال، حكومة تقطيع الوقت في انتظار الاستحقاقات الاقليمية وما ستؤول اليه اعادة خلط الاوراق في المنطقة. فالرئيس ميقاتي، وهذا يعلمه جيداً حزب الله قبل التكليف، لم و لن يقف في وجه المجتمع الدولي فيما يخص المحكمة الدولية واستحقاقاتها. و بالرغم من ذلك، مشى الحزب في ذاك الخيار و تم تكليف الميقاتي للمرحلة المقبلة. بعد التكليف، كان من الصعب على الرئيس الجديد الوقوف او التمايز عن الرأي العام السنّي بالتحديد. لذا عاد فالتزم بثوابت دار الفتوى التي قيّدته نوعاً ما بما كان قد رفض التقيّد به في الاستشارات النيابية. على الارجح ظن السيد ميقاتي و حلفاؤه الجدد ان ملف المحكمة الدولية يمكن تجميده بإحالته الى طاولة الحوار الوطني و بالتالي تأجيل هذا الاستحقاق الى ان تنجلي الامور. الا ان رد قوى 14 آذار كان غير متوقع حيث بدأت هذه القوى بالمطالبة بنزع السلاح والسير في هذا المسار دون تراجع، أي بالمعنى السياسي: المحكمة مقابل السلاح. نوعاً ما، هذا التشابك ادى الى تعطيل او تأخير تشكيل الحكومة في المدى القريب. هذا على المستوى الداخلي.
اما على المستوى الاقليمي فالمسار الذي سلكته الثورات العربية وما آلت اليه الامور، وما ستؤول اليه في المديين القريب والبعيد، اجل الاستحقاق الداخلي في ما يخص التشكيل المرتقب للحكومة. وهنا نصل الى السؤال المهم: هل كان باستطاعة حزب الله و حلفاؤه، ما بعد انقلاب “القمصان السوداء”، تشكيل حكومة امر واقع؟ نظرياً الجواب هو ايجابي. اذاً لماذا لم يقدموا على هذا الامر؟ او بشكل آخر، لماذا اختاروا الميقاتي رئيساً وهو، نوعاً ما، يشكل وزراُ على كاهلهم يعيق تحركهم؟ للإجابة على هذه الاسئلة لا بد من التأكيد على بديهيات علم التوقّع او ما يعرف بـ tecniche di previsioni “. يقوم هذا العلم على وضع سيناريوهات مستقبلية لما ستؤول اليه الامور وبالتالي يصبح من السهل وضع استراتيجيات لمواجهة الاخطار و احداث تغييرات لحرف المسار في الاتجاه المطلوب. زهو مستخدم في عدّة مجالات سواء الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية او العسكرية. والحال، فان معظم الحكومات والمؤسّسات و الاحزاب تعتمد على هذا العلم، ولا اظن بان حزب الله لا يعتمد على هكذا نوع من الدراسات. نعود الى السؤال و نؤكد بأن حكومة امر واقع بالشعارات التي كانت تنادي بها القوى الممانعة كانت ستجعل من لبنان دولة مارقة بالنسبة للمجتمع الدولي، بالإضافة بأن دولة مثل لبنان وما تعانيه من اشكاليات اقتصادية و اجتماعية لا تحتمل هكذا مقاطعة. وعلينا ان لا ننسى ايضاً المصالح السياسية و لاقتصادية للدول الغربية و العربية في لبنان. لذا، فإن حكومة من هذا النوع كانت ستكون ضد اكثر من نصف الشعب اللبناني وضد الغالبية العظمى من الدول المؤثرة في الاجتماع الدولي. هذه الامور يعلمها حزب الله، حتى لو ان بعض الرؤوس الحامية تجعلنا نعتقد غير ذلك. لذا، فإن خياره وقع على الميقاتي، وأعتقد بان هناك عدّة اسباب وراء هذا الخيار.
اولاً لشبكة العلاقات التي يمتلكها هذا الرجل. السبب الثاني يتعلق بالطموح السياسي على المستوى الفردي للرئيس و سعيه لكي يصبح الزعيم السنّي الاول. السبب الثالث بالإمكان تسميته ” النفور النسبي” للرأي العام السنّي من شخصية الرئيس اذا ما قيس بشخصية سنّية اخرى ممن تدور في فلك 8 آذار و التي، فيما لو حصل هذا الامر، لكانت ستؤدي الى النفور المطلق للرأي العام لكافة قوى 14 آذار. اما السبب الرابع فله علاقة بالقبول النسبي لشخص مثل الرئيس ميقاتي من قبل الدول المؤثرة في الواقع اللبناني. لهذه الاسباب، اعتقد، بان حزب الله لم يشأ او ليس بإمكانه ان يتّخذ قرار بالمواجهة التامة التي كانت ستعني “غزّة” ثانية بالمعنى السياسي للكلمة. فلبنان بالإضافة الى كونه بلداً تعدّدياً ولا يمكن ان يحكم من قبل طرف واحد – و قد خبِرَ كمال جنبلاط قبلهم ذلك حينما كان يحاول اقناع حافظ الاسد بضرورة الحسم العسكري – هو ايضاً عصي ولا يمكن ان يصبح إمارة غزّاوية لأنه – بالرغم من تصنيفه كدولة فاشلة – مازال يمتلك مؤسّسات فاعلة والحماية الدولية ما زالت قائمة. فعلى سبيل المثال المؤسّسات الامنية من قوى امن و جيش ما زالت مؤسّسات فاعلة، بالرغم من عدم القدرة على ضبط الاوضاع بشكل تام كما حصل فيما يتعلق بالنسبة لعملية إزالة الأبنية المخالفة للقانون ومسألة التعديات على مشاعات الدولة والأملاك الخاصة في الجنوب و ضاحية بيروت الغربية. فتعرض المعتدون على الأملاك العامة للقوى الأمنية حين حاولت هذه الاخيرة إزالة المخالفات يشكل نوعاً ما اضعاف لمؤسّسات الدولة ولا يلغيها. ولا تشكل مؤازرة حركة «امل» و «حزب الله» للقوى الامنية الا الإيغال في اظهار الدولة ومؤسّساتها بمظهر، من قبل هذه القوى، الضعيف و غير القادر حتى على ضبط الاوضاع الداخلية بعدما حاولوا مراراً و تكراراً تثبيت مقولة “المقاومة والجيش” على اساس ان هذا الاخير ليس بإمكانه لوحده الدفاع عن لبنان و الحفاظ على سلامة اراضيه.
لتلك الامور مجتمعة، كما اسلفنا، وقع الخيار على الرئيس ميقاتي. الا ان المأزق الحالي في عدم اتفاق او توافق الاكثرية الجديدة على المقاعد وتوزيعها ليس بالسبب الكافي او قل بانه ليس بالعقدة التي يصعب حلّها. فمن يمتلك المفاتيح التي جعلت الاكثرية اقلّية والعكس صحيحاُ لا يصعب عليه انجاز التشكيلة الحكومية على ما اعتقد..! و قد كتب بعض المحلّلين السياسيين بأن مسالة عدم تشكيل الحكومة، بالرغم من هذا الوقت الطويل الذي مر الى الان، غير مبرر او هو بمثابة التأخير المقصود…؟! فعدم تشكيل الحكومة، معطوف عليه التحركات الاخيرة على ارض الجنوب واقفال ومنع اصحاب محلّات بيع المشروبات الروحية من ممارسة مهنتهم، اعتقد، بأنها استراتيجية للسير بالبلد الى الهاوية، وهي لا تفيد الا قوى الامر الواقع. فخلق حالة فوضى و اضعاف سلطة الدولة، خاصةً في ظل انقلاب الاوضاع في سوريا، لا يمكن ان يوضع الا في إطار خلق ظروف جديدة على الارض تحسباً و استعداداً للمرحلة المقبلة.
قد تفيد سياسة اللعب على حافة الهاوية تأخير البحث في مصير السلاح وبالتالي الوصول لحصره في مؤسّسات الدولة الشرعية. الا ان هذا التأخير لا يمكن ان يبقى الى ما لا نهاية. و الحال، وفي ظل العنف المستشري واستقواء الاهل بالأحزاب والسلاح على الدولة و سلطتها لا يمكن بناء “الدولة القادرة”. جل ما في امر هذه السياسة هو اضعاف الدولة بهدف احكام السيطرة عليها، الا انه، وعكس ما يعتقد اصحاب هذه الرؤى، هذه السياسة قد تؤدي الى ضياع او خسارة البلد الذي يريدون ان يحكموه.
walidhlb@hotmail.com
* كاتب لبناني