ان حق المقاومة في مواجهة الاحتلال حق لكل الشعوب، وهو ايض امر متوقع ضمن الطرق المسدودة في الخيارات السلمية الاسرائيلية العربية كما هي في هذه المرحلة. فكلما انسدت هذه الطرق وازدادت صعوبة تحقيق انسحابات اسرائيلية تتعاظم فرص المقاومة بما فيها تلك التي تبدو انتحارية كما وقع في غزة في الاسابيع القليلة الماضية. لقد نجحت حركة حماس في فرض نفسها على المعادلة السياسية الاقليمية، وهذا دليل تنظيم وإرادة، كما حققت حماس من خلال حربها استعادة لروح المقاومة والروح العربية في مواجهة اسرائيل. واثبتت معركة غزة ان إسرائيل لن تستطيع ان تفرض حلا عسكريا على العرب. ففي غزة حصل امر مشابه لما حصل في جنوب لبنان عام ٢٠٠٦، دون ان يعني هذا شرعية حجم الثمن الذي دفعه المواطن اللبناني والفلسطيني في كل من جنوب لبنان وغزة.
ان الناتج العام لحرب غزة كما هو الناتج لحرب بيروت ١٩٨٢ ولعشرات المعارك في تاريخ المقاومة الفلسطينية هو تأكيد حق المقاومة من جهة مع اظهار مدى صعوبة الطريق امام الشعب الفلسطيني في تثبيت حقه في تقرير المصير. فأسرائيل حتى الان ورغم مرور سنوات على الطريق السلمي تعارض قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. ولكن بنفس الوقت هناك تخوف في العالم العربي الرسمي من الاردن الى مصر من نكبة فلسطينية جديدة تؤدي لملايين اللاجئين من الضفة الغربية وقطاع غزة. وهناك تخوف عربي ايضا من ان حماس بطرحها تحرير كل فلسطين وعدم القبول بمبدأ الدولة الفلسطينية و التسوية السلمية التي يسعى اليها العالم العربي قد يساهم في تسهيل تنفيذ هذا المشروع على اسرائيل ويؤدي بنفس الوقت لتوريط العالم العربي في معارك لا يقوى عليها. بين الحد الادنى فلسطينيا وهو قيام دولة وبين تحرير كل فلسطين كشعار يستحيل تطبيقه يتجلى الواقع الفلسطيني الصعب في ظل انقسام حماس وفتح وغزة والضفة.
ان الوضع بعد حرب غزة اصبح اكثر عنفا وتصادما، فالنموذج الذي تعتمده حركة حماس الان هو نموذج لا يختلف عن ذلك الذي اعتمده حزب الله في السابق. فقد سيطرت حماس على غزة بالكامل، وفرضت نفسها حزبا وحيدا مسلحا مسؤولا عن كل الابعاد السياسية لغزة. هكذا حفرت الانفاق، رتبت القدرات وفق امكانياتها واستعدت لمعركة مع اسرائيل تبدو وكأنها شبيهة بمعركة بيروت عام ١٩٨٢. فبعد ان ساد التوقع ان اسرائيل بامكانها اجتياح غزة بايام، تبين ان هذه الارض التي احتلت بساعات عام ١٩٦٧ لا يمكن احتلالها بلا ثمن اسرائيلي كبير. علينا ان نرى ان هذا وقع على الارض وتحقق مهما كانت الانتقادات الموجهة لحماس في ابعاد عديدة اخرى تتعلق على الاخص بنتائج تدمير غزة وما وقع مع السكان المدنيين. لنأمل من ما وقع ان تكون هذه اخر المعارك التي يدفع فيها السكان ثمنا كبيرا بهذا الحجم. فهناك تخوف حقيقي من معارك شبيهة تنتهي الى كوارث اعمق واكبر.
ربما لو نظرنا بعمق في اسباب الالتفاف الشعبي الكبير حول القضية الفلسطينية في المعركة الاخيرة، سنجد ان جانبا كبيرا منه كان التفافا حول غزة واهلها، ولكن جانبا اخر منه ان الجمهور الفلسطيني والعربي يريد ان يرى عملا عربيا مقاوما يتحدي اسرائيل والاهانات الكثيرة التي وجهتها للعالم العربي، كما انه يريد ان يرى قيادة فلسطينية اكثر قوة، اكثر جرأة في مواجهة اسرائيل.. وبنفس الوقت الشعب الفلسطيني لم يعد يتقبل دور القيادة التاريخية لحركة فتح وذلك لدخولها في تسوية ادت الى اجتياحات دائمة للضفة الغربية وصولا الى حصار عرفات في مقره لثلاث سنوات وانتهاءا بمقتله مسموما على الاغلب عام ٢٠٠٥. لهذا فكما تواجه حماس تحدي كبير حول ما العمل بعد غزة تواجه فتح تحدي كبير مرتبط بتراجع هرمها القيادي وترهل اسلوبها وضرورات التجديد في قياداتها.
في ظل كل هذا سوف تتنوع نماذج الصراع الفلسطيني الاسرائيلي في المرحلة القادمة. احد هذه النماذج قد يعني، وهذا يمثل احتمال، امتداد حماس للضفة الغربية، فهذا الاحتمال اصبح ممكنا. بمعنى اخر قد تكون الحرب القادمة في الضفة الغربية وليس في غزة اذا ما استمر الحصار الاسرائيلي وهجمات اسرائيلية دائمة في الضفة الغربية المصحوب بترهل حركة فتح غياب قيادة اكثر قوة واكثر استقلالا في اعلى هرمها.
ان انقاذ الوضع الفلسطيني سوف يتطلب اولا انقاذ التيارا الوطني الفلسطيني من السقوط. فبدون التيار الوطني الذي تمثله فتح سوف تفقد قضية فلسطين ارضيتها الوطنية التي تواجه الوطنية الاسرائيلية ومشروع اسرائيل الكبرى الممتدة في الضفة الغربيه والقدس. وليتم هذا هناك ضرورة كبرى لتغير كبير في حركة فتح للتعامل مع أداؤها الضعيف منذ اجتياح اسرائيل للضفة الغربية عام ٢٠٠٢، اذ تبدو الحركة التي اسسها عرفات قد شاخت وفقدت الزخم( حتى الان)، واصبحت سلسلة من السفارات والدبلوماسيين الذين لا يقوون على الضغوط الاسرائيلية اليومية اكانت سياسية ام اقتصادية ام عسكرية . ولكن فتح هي الاخرى لديها قواعد كبيرة وقدرات متميزة وارث نضالي تاريخي، وبأمكانها لو قررت عقد مؤتمرها الوطني العام وانتخاب قيادات جديدة ان تحقق تغيرا مهما في المعادلة. ان قيام حركة فتح بالسعي الجاد لبناء خط وطني مستقل يتبني الجمع بين المقاومة بوسائل متنوعة وليس بالضرورة وسائل مسلحة هو الاخر امر ضروري لمستقبل الشعب الفلسطيني.
على اسرائيل ان تكتشف خياراتها. فمن مصلحة اسرائيل ان تقبل بتقسيم الارض الى دولتين، والا واجهت خيارا اسوأ وهو تحول الوضع الفلسطيني الاسرائيلي الى حالة شبيية بجنوب افريقيا وسط صرخات دولية تتهمها بانتهاك حقوق الانسان. ولكن إسرائيل تراهن على وضع تستطيع من خلاله ان تجعل حماس محصورة في غزة بينما السلطة الفلسطينية ضعيفة في الضفة الغربية مع السعي لاشراك كل من مصر والاردن في ادارة هذه المناطق. تراهن اسرائيل امكانية التهجير و علي تصفية القضية الفلسطينية من خلال انهاك الفلسطينيين اصحاب البلاد الشرعيين الذين ينافسونها على أرض فلسطين.
shafgha@hotmail.com
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت