وأخيرا يجب حماية الشباب من التعبئة ذات المنحى المتشدد، التي قوامها التجييش والتحريض على الآخر لا سيما الكتاب والمثقفون، فالتشدد ليس إلا ثمرة فجة من ثمار ذلك الخطاب التهييجي الذي يصور للصغار أن دينهم مستهدف ووطنهم مستهدف من قبل تلك الفئة من المثقفين والكتاب
الكشف عن الخلايا الإرهابية منذ أيام يؤكد بوضوح أننا أفرادا ومؤسسات مجتمعية لا تتعدى مواجهتنا للفكر الإجرامي ردود الأفعال الآنية، فلقد كثرت المقالات
والبرامج التلفازية وربما الندوات والمحاضرات، ثم لا نلبث أن نعود إلى ماكنا فيه من انشغال بأمور دنيانا! كلنا في مواجهة الإرهاب نحوم حول الحمى إما عجزا وإما خوفا وإما جهلا وإما مهادنة وإما تواطؤا، والأمران الأخيران هما الأشد وطأة فيما نحن فيه، مواجهتنا سطحية لم تغُص في عمق الظاهرة الإجرامية، ولولا ما يقوم به رجال الأمن من الإيقاع بالمجرمين وإفشال خططهم لدخلوا على كثير من المواطنين المستهدفين في عقر دورهم ولدمروا ما زينت لهم أنفسهم المريضة وعقولهم المجرمة تدميره .
ردود الأفعال والاستجابات الآنية لا تصنع خطابا مضادا، لا تواجه الإجرام والمجرمين كما ينبغي لهم، والملاحظ أن المجرمين غيروا استراتيجياتهم وهيئاتهم ونوعوا خططهم وأساليبهم وطوروا آلياتهم وحددوا أهدافا كبرى لهم ليبلغ تدميرهم أقصى مداه ولتكون الخسائر ذات أكلاف باهظة لها انعكاسات خطرة في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فيما نحن ما نزال نراوح مواقعنا في دائرة الأفعال وردودها فلا خططَ عميقة ولا أهدافَ ناجزة ولا انتصاراتَ في المواقع التي هي الساحة الفعلية للتغيير قبل أن يستوي الإجرام على سوقه، ويظل خطابنا
ضعيفا خافتا وجهودنا لا ترقى إلى مستوى الكارثة .
لعل من أبرز مظاهر ضعف خطابنا هو الرفق بتلك الفئة من القتلة والمجرمين بدءا من تسميتهم بالفئة الضالة، والضلال (والإضلال في كلام العرب ضد الهداية والرشاد، يقال أضءللتَ فلانا إذا وجهتَه للضلال عن الطريق) ويعني هذا الانحراف عن الطريق المستقيم ويؤيده قوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) فهذا الصراط وهو الطريق الذي لا اعوجاج فيه خاص بالذين أنعم الله عليهم، أما من غضب الله عليهم والضالون فهذا ليس طريقهم . وهذه الفئة المجرمة في حق نفسها وأسرها ومجتمعها ووطنها ليست فئة ضلت طريق الهداية والرشاد فحسب بل فعلت ما هو أنكى من ذلك بمراحل، وهناك أمثلة كثيرة للذين يخرجون عن الطريق المستقيم كالمزورين والمرتشين ومغتصبي حقوق الآخرين وشهود الزور ومدمني المخدرات ومن شاكلهم، لكنهم لم يحملوا سلاحا ولم يخزنوا السلاح في جوف الأرض ولم ينخرطوا في زمر المجرمين الإرهابيين وربما لو طلب منهم ذلك لما أقدموا عليه! ولم يجمعوا كل تلك الأموال الباهظة سرقة واحتيالا ليحولوها أسلحة تدمر الوطن، هذه الفئة ليست إلا فئة من القتلة والمجرمين والمتآمرين على الوطن وأمنه
ومقدراته، فهل يليق بنا الرفق بهم بعد الذي وجدته أجهزة الأمن في حوزتهم من أسلحة وعتاد وذخيرة جهزت للعبث بالوطن وتدمير اقتصاده وقتل أرواح بريئة؟ وإذا كان يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (لا يقتل القاتل وهو مؤمن) فما عسانا أن نقول عن تلك الفئة؟ ألا يخرجها ما حاولت فعله عن حياض الدين؟ وما بالُ بعضهم يكفرون من خالفهم الرأي لكنهم لا يكفرون من أعد العدة للقتل والتخريب والتدمير والإفساد والعبث بالوطن تلبية لتعليمات المارق والشيطان الأكبر ابن لادن؟!
ومن ظواهر الرفق بالمنحرفين والإرهابيين هو التماس الأعذار لهم والتخفيف من وطأة جرمهم والادعاء بأنهم قد غُرر بهم، صحيح أن هناك سذجا عبث الشياطين في عقولهم ورسموا غشاوة على أبصارهم وأغلقوا آذانهم عن سماع أي صوت ينبههم ويوقظهم من سباتهم، نعم هناك من غرر به لكنهم قلة قليلة قياسا ببقية المحترفين القتلة .
الرفق بأولئك الأشرار والإصرار على الاستمرار في نصحهم والمراهنة على وجود بقية من خير في نفوسهم المريضة، وتقديم الدعم المادي لهم ولأسرهم رغبة في شراء ولائهم والعودة عما هم فيه، إن كان ذا جدوى مع من غرر به من الصغار، فإنه لا
يجدي مع الرؤوس الكبيرة والعقول المدبرة كالذي بويع في المسجد الحرام، القتل هو الجزاء المناسب لهم، أولئك الذين لو لم يقبض عليهم لنفذوا ما خططوا له، وما عدا القتل فهو ليس إلا نوع من المهادنة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفَوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة 33، أليست الدولة تعاقب كل من انتهك السلم العام كالقتلة واللصوص والمنحرفين وكل من ثبت عليه القيام أو محاولة القيام بجرم ما؟ فلماذا يحاسب هؤلاء ويُحاور ويُناصح أولئك الذين لم يتوقف إرهابهم على قتل فرد أو ارتكاب جرم في دائرة ضيقة ومحدودة بل تعداه إلى محاولة قتل وطن بأكمله؟ إلا إذا ضمنتم أن تغيروا ما بأنفسهم عبر الحوار والمناصحة وهو ما لا يمكنكم ضمانه (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) 11الرعد، لقد أصبح لهؤلاء المارقين خطة عمل واضحة واستراتيجية مخطط لها من رؤوس إجرامية احترفت الإرهاب فمن التكفير لشخصيات وطنية تمهيدا لقتلها إلى جمع الأموال بطرق ملتوية منها المشاريع الوهمية والمتاجرة بالأموال
والتخطيط لخطف شخصيات والمساومة عليها والسطو المسلح على البنوك والمؤسسات التجارية لجمع أكبر قدر من الأموال لتمويل عملياتهم القذرة، إلى ابتعاث بعض أفرادهم لتعلم الطيران ليخطفوا الطائرات ويقوموا بعمليات انتحارية على مواقع حيوية على غرار الحادي عشر من سبتمبر، وإلى اغتيال بعض الشخصيات العامة ومهاجمة أحد السجون لتحرير أسراهم من الإرهابيين، ولذا تمت مبايعة أحد القادة المارقين في الحرم ليضفي على عمله قدسية تجعل الصغار المغيبين ينقادون له دون وعي .
والسؤال الذي يطرح بقوة هل يفقد الإرهاب بعض أنصاره والصامتين عن فظائعه بعد أن اتضحت أهدافه التدميرية وخططه البعيدة المدى؟
ويوازي ما سبق خطاب مخاتل مراوغ في مواجهة ظاهرة الإرهاب التي لم يعد هناك من مبرر إلى إنكارها أو التقليل من أخطارها، يتضح ذلك في عدم مسارعة بعض الخطباء وأئمة المساجد في الدعاء عليهم كما كانوا يفعلون مع بعض المخالفين لهم، ولم نسمع من بعضهم الترحم على الشهداء من ضحايا الإرهاب كرجال الأمن وغيرهم من المدنيين الأبرياء، كما لم نسمع الدعاء لرجال الأمن بالثبات والنصر كما كانوا يدعون للمجاهدين في كل مكان حتى لو
كانوا في جزر واق الواق!
الإرهاب ككل أزمة أو مرض عضال لابد من البحث عن سبل لعلاجه، حتما لا يكون العلاج بالأدوية المسكنة أو تلك المنتهية الصلاحية، بل لابد من استئصال المرض من جذوره لابد من علاجه كما يعالج مرض السرطان الذي إذا لم يبادر إلى علاجه منذ ظهور علامته الأولى قضى على صاحبه، ويقينا أننا في حرب الإرهاب ما زال لدينا متسع من الوقت إذا وُحدت الجهود وصفت النيات خصوصا مع النجاحات التي يحققها رجال الأمن في مواجهته ودك قلاعه قبل أن يبدأ أهدافه المدمرة .
وما دمنا في صدد الحديث عن العلاج فلا بأس من التذكير بأن وزارة التربية والتعليم يقع عليها العبء الأكبر في اجتراح سبل العلاج التي ليس منها الخطب الرنانة والمحاضرات وغير ذلك مما يدخل في سياق الكلام الشفهي والمكتوب، ولا أدري ما الآليات التي اتبعتها الوزارة في الأسبوع الأمني لكن مما لفت نظري هو توجيه ملاحظات من بعض التربويين لما قامت به الوزارة وطالبوا بتكوين هيئة مستقلة تعنى بحماية طلاب المدارس من خطر الأفكار المنحرفة وتبني استراتيجية قائمة على برامج مدروسة بعناية لا أن تكون برامج ردود أفعال . (الحياة الثلاثاء 8مايو
2007) .
مشكلتنا مع الإرهاب مشكلة فكرية ثقافية، ينبغي أن ترصد لها الميزانيات وأن يحشد لها المختصون في كل الفروع المعرفية ذات العلاقة بالتربية والفكر والناشئة، ينبغي إشراك عدد كبير من أبناء المجتمع ومن أطياف مختلفة لعلاج الظاهرة ودراستها وتقديم الحلول، لا ينبغي الاقتصارعلى العاملين في المدارس وحدهم بل لابد من الاستفادة من خبرات الآخرين ومعارفهم .
إن الخطوة الأولى لابد أن تنطلق من قطيعة معرفية مع الأفكار التي أفرزت مظاهر التشدد والغلو والتطرف والقطيعة المعرفية تعني إنتاج أفكار أو منظومات أو برامج عمل غير مسبوقة وغير مطروقة، وتختلف عمّا هو سائد فتقاطعه وتهيئ لاتجاه مغاير ومختلف، وهذه القطيعة المعرفية مع تلك الأفكار تحتم علينا العودة إلى منابع الإسلام الصافية الداعية إلى حرية التعبير وإحياء ملكة التفكير، والانفتاح على الآخر المختلف، وإشاعة روح المحبة والتسامح، وبعث روح الإبداع والفكر الخلاق، والنهل من مناهل العلم أياً كان مصدره، والتخلص من حمولة الفكر التقليدي، ومحاربة مظاهر الاستبداد والغلو والتطرف، ، وفض الاشتباك الحاصل بين ما هو حلال وما هو حرام، وبين المقدس
وما ألبس لباس القداسة وما هو منها، وهو ذلك الاشتباك الذي أفسح المجال لاجتهادات شوشت كثيراً من المفاهيم التي ما زالت عالقة في الأذهان.
لابد أن يقوم متخصصون في التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس والسياسة بقراءة الخطاب التعليمي الموجه للطلاب ذكورا وإناثا، بتسليط آليات النقد عليه وتفكيك بناه التركيبية وإلغاء هالة التقديس التي تضفى عليه، وإحلال ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة مكانه . إن عملا كهذا لابد أن يصطدم بعقبات يأتي على رأسها هيمنة هذا الخطاب وحده دون سواه، وأنه لا يجوز لأحد الاقتراب منه!
أما في مجال الأنشطة المدرسية فينبغي تنويعها والخروج بها من الأنماط التقليدية التي ظلت مهيمنة على الأنشطة الطلابية طوال عقود، الجو المدرسي في المدارس الحكومية شديد الكآبة وهي في مدارس البنات أشد منها في مدارس الذكور، تنويع لأنشطة يقضي على الرتابة والنمطية ويضع حدا للملل الذي يعتري الطلاب والطالبات حيث يشعرون أن النشاط امتداد للدروس، يجب أن نفتح عيونهم وعقولهم على الجمال وحب الحياة وما فيها من مظاهر البهجة والفرح، من فنون تشكيلية ومسرح وموسيقى وغناء، فما الذي يمنع من إقامة
حفلات مدرسية فيها تمثيل وغناء كما تفعل المدارس الخاصة كمدارس الرياض؟ ما الذي يمنع من بث الأغنيات الوطنية كما في أوبريتات الجنادرية التي تتغنى بالوطن؟ لماذا تمنع الموسيقى والغناء في المدارس في حين تبث من الإذاعة والتلفاز الحكومي، هذه الأجواء التي تفرض على الطلاب هي التي تشعرهم بالضيق وأنهم يحرمون مما يباح لغيرهم .
وفيما يتعلق بالفكر يجب أن تشيعوا في المدارس ثقافة الحب حب الحياة وحب الوطن وحب العمل وحب الخير وحب الناس أجمعين، علموهم أن الله خلقهم ليعمروا الأرض بالعبادة وبالعمل والحب والعطاء المثمر، فلم يخلق الله الإنسان ليكون أداة شر وسلاح تدمير، لم يخلقه ليعيش منطويا على نفسه كئيبا خائفا مرتعشا من الحساب والعقاب، مفكرا بالموت وعذاب القبر، وكارها الدنيا والناس أجمعين، لقد أمره الله أن يكون متوازنا لا مشدودا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة .
اطلقوا عقول الشباب نحو فضاءات أرحب وأوسع، حرروا عقولهم من قيم الخرافة والدجل والتغرير، فلو أعمل المنحرفون عقولهم فيما تلقوه من فكر الإرهابيين لما انساقوا إليهم طائعين، لكنهم لم يعتادوا على إعمال العقل وشحذ ملكة التفكير وتسليط
آليات النقد على ما يلقى إليهم لقد عُلموا عدم المناقشة وفرضت وصاية على عقولهم .
عالجوهم بالصدمة التي تخلخل مارسخ في أذهانهم من مسلمات وأكاذيب، يأتي على رأس ذلك فضح ابن لادن وتعرية فكره الهدام وعقيدته المريضة اكشفوه لهم بينوا أهدافه الخبيثة، وبينوا جحوده ونكرانه للبلد الذي أنعم عليه نعما لم يقدرها، بينوا لهم حقيقة الجهاد ومراميه وأهدافه، ومتى يجتهد فيؤجر ومتى يخطىء فيحاسب، لقد بات كل من ارتكب جرما باسم الدين مجتهدا وله أجر الاجتهاد ومن هذا المنطلق يبرر بعضهم أعمال ابن لادن فيغررون بالصغار الذين لا يعون حقائق الدين وعيا جيدا .
حرروهم من عقد الاستعلاء وتضخيم الذوات التي تنمي لديهم ثقافة الوصاية على الآخرين مما يجعلهم صيدا سهلا للإرهابيين دعاة الحروب وزلزلة عروش الحكومات، أولم يأمر بذلك سيد قطب زعيم الإرهاب الأول وصانعه وفيلسوفه؟ علموهم أنهم ليسوا أوصياء على خلق الله .
وأخيرا يجب حماية الشباب من التعبئة ذات المنحى المتشدد، التي قوامها التجييش والتحريض على الآخر لا سيما الكتاب والمثقفون، فالتشدد ليس إلا ثمرة فجة من ثمار ذلك الخطاب التهييجي الذي يصور للصغار
أن دينهم مستهدف ووطنهم مستهدف من قبل تلك الفئة من المثقفين والكتاب التي (لها ارتباطات بالسفارات الأجنبية) تلك النغمة النشاز التي ما انفك بعضهم يرددها دون حجة ودون قدرة على إثبات ما ادعاه فنراه على القنوات التلفازية صارخا ومتهما ومحرضا بل وواصما المثقفين بالشهوانية لأنهم يريدون إخراج المرأة من بيتها ويدعون إلى نزع حجابها وقيادتها السيارة، حتى يبدو هو وحده صاحب الحق في تناول القضايا المجتمعية وهو وحده من يحب الوطن ومن يحق له الحديث باسمه والدفاع عنه، أما الآخرون فلا شيء يؤهلهم لذلك، وليتقدموا إن كانوا قادرين، وتناسوا أن الوطن وقضاياه المجتمعية ليست حكراً على أحد، وأن الكتاب والمثقفين ليسوا هم من أجاز المسيار والمسفار والمصياف ليوصموا بالشهوانية! خطاب متطرف يهاجم كل من خالفه ويجامل كل من نافقه حتى لو كان ممثلا فاشلا أو آخر غائبا عن الوعي .