صنعاء –
– ما الذي يحدث في عدن؟
– ما الذي يحدث في صنعاء؟
– ما الذي يحدث في تعز؟
– ما الذي يحدث في صعدة؟
– ما الذي يحدث في أبين وشبوة وفي البيضاء ومأرب ولحج والضالع وعمران و….، الله لن ينسى وكذلك الموت لن ينسى بقية المحافظات اليمنية الأخرى بما يفسح المجال إلى طرح سؤال عريض: ما الذي يحدث في اليمن؟
وتنويعاً على هذا السؤال ينطرح السؤال الآخر الأكثر إشكالية وحراجة: وما الذي يحدث في حضرموت؟
صحيح أن حضرموت ليست من كوكب آخر ولكنها حضرموت.
وقبل أن نأتي على مقاربة أولية لسؤال حضرموت لا بأس من الإشارة إلى أن معظم المحافظات اليمنية المذكورة أعلاه تقف على خط واحد في مستوى خروجها عن نطاق سيطرة القبضة الأمنية الموحدة لأجهزة الحكومة، بما في ذلك المحافظات التي سادت بشأنها تصورات بأنها أقرب إلى المدنية والتمدن بفعل عوامل التاريخ والجغرافيا السياسية والهجرة والتفاعل والتداخل. ولكنها صارت تندفع بسرعة مجنونة في ماراثون تسجيل الأرقام القياسية في معدلات الجريمة والعنف المتفلت وتفقيس وتفريخ “الشبيحة” والمزيد من القتلة المستحدثين والطارئين، علاوة على المحترفين المؤهلين في أكاديميات المركز الصنعاني والقادرين على اجتذاب واستقطاب الضالين من الفتيان “المحببين- مدمني حبوب المخدرات- والمتبطلين والعاطلين وشذاذ الآفاق وأصحاب السوابق.
ذلك ما يحدث في عدن اليوم وفي تعز حيث تستعر الحمى الاستعراضية للقبضايات والفتوات ويزدهر بازار بيع وشراء قوة القتل والتباهي بالنجوم والأوائل على مستوى كل محافظة في احتراف مهنة القتل المستعجل، والنهب الخاطف والسمين والتفجير الدرامي اليومي الدامي الذي صار يصبغ الحياة وإيقاعها بلون الدم والسخام إلى موعد غير معلوم.
من المعلوم أن هذه الميليشيات التي تسرح وتمرح بسيولة عارمة في عدن وتعز وغيرها ليست مفارقة للطبيعة ولا للواقع ولم تهبط علينا من السماء، فهي مسنودة من مراكز القوى الشريرة في صنعاء التي امتدت أذرعها إلى هوامش الادقاع والأحياء المغمورة والمهجورة المكتظة بكائنات مطموسة الملامح ومفتقرة إلى أبسط شروط وضرورات العيش، وأغدقت على فتية تلك الأحياء بالسلاح والفتات من المال والفتاوى لتزج بهم إلى قلب الساحات والميادين وكأنها ادخرتهم كجيش احتياطي يعينها في يومها الأسود.
هكذا صارت عدن تنسحق يوميا تحت دائرة هذا الضرب من الامتهان والهوان والاستباحة والاعتداء على العائلات في الشواطئ والشبان والشابات في الشوارع والمتنزهات والمقاهي بزعم ارتكابهم فاحشة “الاختلاط”، وهدم الاضرحة والمعابد وآخرها “المعبد الهندي” في كريتر قبل يومين.
وفي نفس المنحى غدت تعز تنافس عدن وتتفوق عليها في مضمار ما تسجل من تكاثر رهيب لـ”الشبيحة” والقتلة وما يبدو عليه هذا الرهط الوحشي من انمساخ يستعصي على التعريف تماماً، فهم ليسوا بقبائل ولا مدنيين، وما أسوأ وأحط ذلك الرهط الذي لا يشبه حتى نفسه وليس له ناصية أو طرف!
وتكاثرت الميليشيات والمافيات هنا وهناك كما الفطر بعد المطر، وتناسلت واكتسبت، مع الأيام، المزيد من الطاقة العدوانية وانشحذ خيالها في ارتكابات لا تخطر على بال، وانصقلت مهاراتها في مجال صناعة الترويع وطرد عصافير النوم من عيون الساكنة، ونهب المتاجر والمرافق العامة والخاصة ومرتبات الموظفين والمتقاعدين من مراكز البريد والبنوك ومراكز الصرافة.
وتطاول العنف ليضرب كافة الأرجاء واستشرى وتفشى وصار أكبر وأكثر من الطاعون وصارت له تنويعاته وإيقاعاته المتحركة في نطاق اللامتوقع تماماً.
وفيما غدت الجريمة تنسب إلى “القاعدة” وتندرج في ملف الإرهاب، فقد كان هذا الخبر الممجوج والسمج يثير الكثير من استغراب وسخرية العليمين بما يدور، وكذلك بسطاء الناس الذين صاروا يعلمون بأن “القاعدة” هي “قواعد” يتقاسمها الجنرالات الكبار في مركز السلطة الذي تصدع في صنعاء؛ وأن هؤلاء يديرون معاركهم في محافظات أخرى ويستخدمون أذرعهم المسلحة في حومة تصفية الحسابات وتدوير المخلفات بعيدا عن صنعاء التي انعقدت بينهم هدنة –استراحة- لجعلها بمنأى عن معارك الدمار الشامل، وإن بقصد تأمين حصونهم وقلاعهم وقصورهم.
في الأثناء كان أظرف ما تردد في وسائط الاتصال والإعلام أن الرئيس عبدربه منصور هادي هو الأعزل الوحيد من أي “قاعدة”؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون هدفا لحراب أصحاب “القواعد” من سادة الحرب والخراب في صنعاء، علاوة على “قاعدة” الوحيشي والظواهري وبن لادن.
وفي ظل السيادة العليا لسلطة الجريمة والفلتان ولمنطق تعويم التهمة؛ لم يعد السؤال عما يحدث في اليمن؟ والى أين؟ يحرض على الكثير من التفكير ويستفز خلايا الذكاء، لأن جردة الوقائع اليومية تقول بوضوح إن كل شيء محكوم بالصدفة والمجهول وخصوبة اللامعقول وكف العفريت.
ذلك بعض ما يحدث في اليمن ولكن: ما الذي يحدث في حضرموت؟
حضرموت “بيضة القبان” أم كردستان أم سنغافورة الجزيرة
يقول التقرير الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية في 20 أكتوبر 2011م تحت عنوان “قضية اليمن الجنوبي نقطة انهيار”: محافظة حضرموت تحتل موقعا هاما في المعادلة الجنوبية. انها المحافظة الأكبر، حيث تغطي مساحة 37% من المساحة الإجمالية للبلاد، لكنها موطن 5% فقط من السكان، كما أنها تفخر بثقافة حضرمية متميزة وساحل طويل، وجالية مهاجرة، غنية، وبحصة كبيرة من الثروة النفطية المتبقية في اليمن.
وهذه الأخيرة هامة بالنسبة للاستقرار المالي للبلاد، وستكون محورية لأي دولة جنوبية مستقلة جديدة، وعلى هذا الأساس فإن إمكانية قيام حضرموت مستقلة هي فكرة غير مقبولة لمعسكري دعاة الوحدة في الشمال ودعاة الاستقلال في الجنوب.
دعاة استقلال الجنوب ينكرون بقوة أن لحضرموت تطلعات لإقامة دولة مستقلة، ويزعمون بأن هذه فكرة ابتدعها النظام ونشرها لتقويض وحدة الجنوب..
وتحدث التقرير عن آراء متضاربة للحضارم حول الخيارات المستقبلية لحضرموت، لافتاً إلى: يبدو كثير من اليمنيين مقتنعين بصدق بأنهم إذا ما أعطوا الفرصة للحضرميين فإنهم سيختارون الاستقلال، وأن السعودية ستدعمهم، العديد من أكبر عائلات الأعمال في السعودية ستدعم قيام حضرموت مستقلة أو ذات حكم ذاتي وقد أثار إعلان من قبل المجلس المحلي الأهلي الحضرمي في حزيران/يونيو 2011م في مدينة المكلا الساحلية مزيدا من الشكوك، اصدر المجلس وثيقة بعنوان “حضرموت الرؤية والمسار” التي كان هدفها المعلن بناء إجماع حول المكانة الخاصة لحضرموت في أي ترتيب سياسي مستقبلي.
وأكدت الوثيقة على أن إرادة الشعب الحضرمي أهملت في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية اليمنية على حد سواء، ولذلك فإنها تقترح مدونة حقوق لحضرموت لضمان الحكم الذاتي في المستقبل والسيطرة على الموارد المحلية، من بين أهم المطالب ما يلي:
• في الحد الأدنى، ينبغي أن تكون لحضرموت منطقة في سياق نظام فيدرالي.
• ينبغي أن تتمتع المنطقة بحقوق كاملة في إدارة شؤونها وثرواتها ومواردها، كما يجب أن تتلقى ما لا يقل عن 75% من الإيرادات المستمدة من هذه الموارد.
• ينبغي أن يكون للإقليم جيشه الخاص وأجهزته الأمنية الخاصة التي تسهر على أمن مواطني الإقليم.
ورغم إشارة التقرير إلى أن تقرير المجلس –حينها- كان يمثل آراء مجموعة واحدة فقط من الأكاديميين والسياسيين ورجال الأعمال ونشطاء المجتمع المدني الحضارمة فقط.
إلا أنه قال: رغم ذلك فإن الوثيقة تقدم دليلاً واضحا وعلنيا على الاختلافات المناطقية الهامة في الجنوب، وعلى التطلعات الخاصة للحضارمة التي ستلعب دورا في أي ترتيبات سياسية جديدة.
والحاصل انه منذ صدور هذا التقرير عن مجموعة الأزمات الدولية التي صدر لها قبل أيام تقرير آخر، لم يغفل، أيضاً، الإشارة إلى خصوصية موضوع حضرموت.. الحاصل أن الكثير من المياه قد مرت من تحت الجسر، وصارت المطالب التي طرحتها الوثيقة الصادرة عن المجلس المحلي أو عن مجموعة الأكاديميين والنشطاء في المكلا، مطالب متواضعة في ضوء المعطيات والتطورات التي شهدتها حضرموت التي كانت هدفا للتدمير والنهب المتوحش والإقصاء والاستبعاد والتجريف على كافة المستويات. وكان لافتا أن مدن الساحل والداخل الرئيسية في حضرموت كانت مسرحا للاغتيالات التي استهدفت الكوادر العسكرية والأمنية ذات التأهيل العالي والمراس الطويل.. ومن بين القادة والضباط الـ(112) الذين قتلوا على مستوى اليمن، كان لحضرموت ولكوادرها القيادية –على قلتهم- نصيب الأسد.
ثم إن حضرموت كانت وما زالت مسرحاً لصراع واحتراب مراكز القوى وتنازعهم المتوحش على الفوز بحق الاستئثار بحراسة وحماية منشآت النفط والهيمنة على منصات تصديرها واختطافها تحسباً للمستقبل وتقلبات الأيام القادمة.
ولم تكن الكثير من المعارك الدائرة في المعسكرات والمناطق العسكرية عارضة أو اعتباطية، كما لم تنبع التحوطات المركزية الهادفة إلى وضع حضرموت تحت حماية و(…..) المنطقة العسكرية الأولى والمنطقة العسكرية الثانية من فراغ.
ثم إن تجربة إحلال السلام في حضرموت والخلفيات التاريخية وقطبي صنعاء وحضرموت اللذين دخلا في تنافس عبر التاريخ، ومميزات حضرموت ومكانتها، وحالة الانقسام التاريخي والجغرافي بين “قطبي صنعاء وحضرموت”، والأخطاء التي صاحبت إلحاقها بدولة الجنوب بعد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، وموقعها، وقدراتها على استعادة دورها وعلى أن تكون رافعة لليمن واليمنيين شمالا وجنوبا بأفق الحل السلمي الذي يعيد للحضارم حقهم وفقا للمعايير الدولية عبر منحهم حق تقرير المصير الذي يمكن أن يشكل رافعة لليمنيين ودول الجوار، وأن تكون تجربة جديرة بالاعتبار.
ثمة خيارات وسيناريوهات وقراءات وتقارير ودراسات وكتب كثيرة قاربت هذا الموضوع وقد استحوذت اهتمام كاتب هذه السطور الذي تحفز بعد اطلاعه على كتاب “تجربة احلال السلام في حضرموت” للدبلوماسي البارع الأستاذ عبدالعزيز القعيطي الذي تقصد إهداءه لرؤساء فرق مؤتمر الحوار الوطني بصنعاء لعلهم يلتفتون إلى تجربة شاقة طويلة ومذهلة للحوار ولإحلال السلام في حضرموت وهي تجربة استغرقت أكثر من عشرين عاما، من أواخر ثلاثينيات القرن الماضي إلى أواخر خمسينياته.
… وبعد عودة إلى تلك القراءات والخبرات بما فيها خبرة خاصة تشكلت عبر أواصر الصلة والصداقة والتثاقف مع أصدقاء من حضرموت؛ وجدتني اقتنع بالأهمية الاستثنائية لـ”القضية الحضرمية” ومقاربتها بأبعادها السيكولوجية والانتروبولوجية والتاريخية والسياسية، علاوة على ما شهدته الساحة -الحضرمية أقصد- من تطورات فارقة تجتمع على القول بأن المياه التي مرت من تحت الجسر كانت أكثر مما يمكن تصوره.
بالأمس كانت وثيقة المجلس المحلي تستنفر الأشاوس من حماة “الوحدة بالإلغاء” لإخراس صوت أصحاب الوثيقة ولإحباط أي محاولة يسعى من خلالها أبناء حضرموت إلى عقد لقاءات أهلية مدنية، واليوم لم يعد بإمكان أي كان إعادة المارد إلى القمقم.
لقد ظهرت إلى السطح أسماء تنظيمات مدنية وأهلية كثيرة ذات مشاريع ورؤى واضحة المعالم وتربطها صلات سياسية ودبلوماسية بمختلف ألوان الطيف اليمني والإقليمي والدولي.
العصبة الحضرمية، جبهة مستقبل حضرموت، تحالف عشائر وقبائل حضرموت، ملتقى حضرموت للأمن والاستقرار، تجمع كتاب من أجل حضرموت مستقلة ولجنة الطوارئ الشعبية وغيرها.
اللافت أن وثائق أبرز هذه الكيانات –العصبة الحضرمية خاصة- تتميز بشفافية عالية وتعبر عن مكنون الموروث الثقافي الحضرمي المنفتح والمتفاعل مع المحيط القريب ومع العالم أخذا وعطاء في مستوى إعلائها لقيم التعايش فيما بين الحضارم وبينهم وبين جيرانهم في الجنوب وفي الشمال اليمني وفي الإقليم والعالم.
إن تمكين الحضارم من امتلاك حقهم في تقرير مصيرهم سيعود بالنفع على اليمنيين في الشمال والجنوب، وسوف يساعد على إحلال السلام وأجواء التصالح والتسامح في الجنوب والشمال والمنطقة؛ ومن هذه الزاوية تحتاج “القضية الحضرمية” الى مقاربة معمقة منزهة ومتحررة من التحيزات والأحكام المسبقة الملتاثة بفيروسات ايديولوجيات الضم والإلحاق “الوحدوية”.. ذلك ما سنحاول متابعته.
صنعاء
منصور هايل هو رئيس تحرير صحيفة “التجمّع” في صنعاء