يمكن اعتبار إنتخاب المحامي والمشرع والمدافع عن حقوق الإنسان “مون جاي ــ إن” رئيسا جديدا لكوريا الجنوبية مؤخرا واحدا من أكثر انتخابات الرئاسة سهولة في التاريخ المعاصر لهذا البلد.
ذلك أن الظروف الداخلية كانت مهيأة تماما لفوزه على خلفية عزل سلفه السيدة “بارك غيون ــ هي” بتهمة الفساد ذات الحساسية البالغة لدى الكوريين الجنوبيين. هذا ناهيك عن تعهده خلال حملاته الانتخابية كمرشح للحزب الديمقراطي بايجاد حلول سريعة لقضايا تلامس وجدان الجماهير مثل غلاء المعيشة ومعدلات البطالة والنمو الاقتصادي المتراجع، إضافة إلى معضلة العلاقة المتوترة مع كوريا الشمالية التى وصلت إلى حافة الحرب. هذه العلاقة التي يرغب الرئيس الجديد في معالجتها بالانفتاح على نظام بيونغيانغ بعيدا عن تأثيرات واشنطون وضغوطها، خصوصا وأن جذور “مون جاي ــ إن” توجد هناك في الشمال كونه إبنا لعائلة فقيرة فرت من الشطر الشمالي إلى الشطر الجنوبي خلال الحرب الكورية في الخمسينات.
لكن يبقى السؤال: هل يستطيع الرئيس الجديد تحقيق وعوده وتنفيذ أجندته؟ بل هل يتمكن من إتمام عهده الرئاسي والخروج من البيت الأزرق دون فضائح تلاحقه من تلك التي لاحقت كل أسلافه دون إستثناء؟
إقتصاديا ليس من المتوقع أن تحقق كوريا الجنوبية في عهده رخاء ونموا كذلك الذي تحقق في عهد والد سلفه الجنرال “بارك تشونغ هي” في السبعينات لأن ظروف الأمس الداخلية والخارجية ليس كظروف اليوم.
أما على صعيد ما وعد به من تحجيم دور الشركات الكورية العائلية الكبرى المعروفة بـ “تشايبولChaebol ” للحيلولة دون انخراطها في الفساد والإفساد فمن الخطأ الاعتقاد بأنه يملك عصا سحرية، لأن تلك الشركات هي عماد النهضة الصناعية في كوريا الجنوبية وأي مساس بها ستكون له انعكاسات سلبية على دور البلاد الاقتصادي والتجاري والاستثماري داخليا وخارجيا، ناهيك عن أن هذه الشركات بنت لنفسها في المجتمع الكوري الجنوبي خلال العقود الأربع الماضية من النفوذ والسطوة مالا يمكن الإقتراب منه.
وعلى نفس المنوال يخطيء الرئيس الجديد إن أعتقد أن الحوار مع بيونغيانغ سوف يأتي بالنتائج المرجوة ويحرر شعبه من شبح الحرب. فلقد جرب الرئيس الأسبق “كيم داي جونغ” الانفتاح على الشمال بنوايا صادقة مقدما للأخير حزمة من الاغراءات ضمن ماعرف بـ”سياسة الشمس المشرقة” التي تبناها وعبر من أجلها الحدود إلى بيونغيانغ في عام 2000، فلم تقابل مبادرته الشجاعة هذه إلا بالمزيد من التصلب والمراوغة والرعونة، بل أن “كيم داي جونغ” دفع ثمنا لتلك المبادرة غير المسبوقة حينما أتهم بتقديم رشوة مالية لنظيره الشمالي السابق “كيم جونغ ايل” من أجل توجيه دعوة له لزيارة بيونغيانغ فكانت النتيجة أن أنهى الرجل عهده الرئاسي بفضيحة مدوية، هو الذي نال جائزة نوبل للسلام وصـُنف ضمن أكثر قادة آسيا ثقافة وعلما. كما وأن الرئيس الأسبق “روه مو هيون” الذي عمل الرئيس الجديد مديرا لمكتبه بسبب صداقتهما الطويلة زار بيونغيانغ في 2007 طلبا للسلام فلم يجن سوى الإذلال. وهاهي كوريا الشمالية تستقبل رئيس جارتها الجنوبية المنتخب باطلاق صاروخ باليستي قادر على حمل رؤوس نووية بدلا من أن تمد إليه يد السلام.
إلى ما سبق يريد الرئيس الجديد استقلالية أكبر في العلاقة مع واشنطون في الوقت الذي يفترض فيه أن يعزز علاقات بلاده مع إدارة الرئيس ترامب ويشدد على التحالف العسكري التاريخي بين واشنطون وسيئول للتصدي للطموحات العسكرية الصينية المتعاظمة في آسيا.
من جانب آخر يقول الرئيس الجديد إنه سيسعى إلى تعزيز الديمقراطية التي “قوضتها الرئيسة بارك بفسادها”،علما بأن الفساد الذي يتحدث عنه انحصر فقط في اختيارها لصديقة شخصية فاسدة بمعنى أنها لم تستخدم بنفسها منصبها ونفوذها من أجل الاثراء أو تجاوز القانون والصلاحيات. وفي هذا السياق استخدم ويستخدم الرئيس الجديد حقيقة تمتعه بسيرة نزيهة، معطوفة على تاريخ طويل في الدفاع عن حقوق الانسان، ونشأة عصامية فذة (تقول سيرته الذاتية مثلا أنه كان يقتات مما كانت تبيعه أمه من بيض على مرفأ بوسان وهو معلق على ظهرها) لنيل ثقة الجماهير ودعمها. غير أن العبرة بالخواتيم، حيث أن كل أسلافه تقريبا كانوا نزهاء وعصاميين ومدافعين عن حقوق الانسان في عهود الديكتاتورية العسكرية ودخلوا المعتقلات بسبب أفكارهم، لكنهم انهوا عهودهم بفضائح من عيارات مختلفة. ثم أن الذي يتحدث اليوم عن تعزيز الديمقراطية كان أول من انتهك شيئا من قواعدها، حينما راح يشحن الجماهير ضد الرئيسة بارك في وقت مبكر وقبل أن تتهمها المحكمة الدستورية بالفساد وتقرر عزلها، وذلك في موقف ربما أملته نزعة انتقامية دفينة ضد إبنة الرجل الذي أدخله المعتقل في سنوات شبابه، بل ضدها شخصيا كونها نافسته في انتخابات 2012 الرئاسية وفازت عليه وحرمته من كرسي الرئاسة آنذاك.
صحيح أن الكوريين الجنوبيين يتطلعون إلى التغيير وبدء عهد جديد. لكن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها “مون جاي” بنسبة 41.5% تقريبا لا تفيد بأن الأغلبية الساحقة تؤيده أو ترى فيه زعيما قادرا على التصدي للتحديات التي تواجه بلادهم، لذا لجأت نسبة معتبرة من الناخبين تفوق النصف إلى التصويت لصالح منافسيه وهما مرشح حزب الرئيسة المقالة “هونغ جون ـ بيو” (23.3%) ومرشح حزب الوسط “أن شيول ـ سو” (21.8%)، قائلين أن سبب عدم تصويتهم لمون جاي هو مخاوف تعتريهم بأنه يساري موال للنظام الحاكم في الشمال أو لأنهم يشعرون أن التشدد إزاء شغب وتهديدات بيونغيانغ يجب أن تكون له الأولوية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh