تعود بلوشستان مرة أخرى إلى واجهة الأحداث، لكن هذه المرة عبر جزئها الواقع في إيران والمعروف بإقليم سيستان. هذا الجزء الذي لم يحظ باهتمام إعلامي مساو لما حظيت به بلوشستان الباكستانية في السنوات الأخيرة بسبب ما يقال عن تعتيم إيراني متعمد على أوضاعها.
فمنذ منتصف فبراير الجاري صار اسمها يتردد في نشرات الأخبار و التعليقات على خلفية قيام جماعة تطلق على نفسها اسم ” جند الله” بتفجير حافلة عسكرية في زاهدان عاصمة الإقليم المذكور، الأمر الذي أدى إلى مقتل 11 و إصابة 31 فردا من أفراد الحرس الثوري الإيراني. غير أن هذه الحادثة لم تكن سوى الأخيرة في سلسلة حوادث مماثلة بدأت تقلق مضاجع طهران منذ أكثر من عامين. ففي يناير 2006 قامت الجماعة بنشر شريط فيديو عن تنفيذها حكم الإعدام في ضابط مخابرات إيراني يدعى شهاب منصوري من بعد أسره مع تسعة من رفاقه بالقرب من الحدود الإيرانية الباكستانية. و في مارس من العام نفسه نصبت كمينا للحرس الثوري الإيراني و نجحت في قتل 26 وإصابة 12 منهم. وبعد ذلك بشهرين قالت الجماعة أنها قتلت 12 فردا على الطريق الموصل ما بين مدينتي كرمان و بام. إلى ذلك أعلنت الجماعة في وقت سابق عن مسئوليتها عن اسر فريق من رجال المخابرات الإيرانية كانوا مسافرين ضمن قافلة عسكرية من بينهم ضابط في قوات الباسيج شبه العسكرية يدعى احمد شيخي وضابط شرطة يدعى أمير هاراتي، وطالبت بإطلاق سراح عدد من أعضائها المعتقلين في السجون الإيرانية مقابل إطلاق سراح هؤلاء.
و يذكر أن كلا من إسلام آباد و طهران أعلنتا أنهما تتعاونان ضد ميليشيات بلوشية على جانبي الحدود المشتركة في مناطق يغلب عليها الطابع القبلي و ظلت بعيدة تقليديا عن هيمنة السلطة المركزية، واصفتين العملية بأنها ضد عصابات تتاجر في المخدرات الأفغانية. و بطبيعة الحال فان بين القبائل البلوشية من يتاجر بالمخدرات باعتراف جماعة جند الله، غير أن تعاون البلدين يبدو انه يستهدف، كما كان الحال في ظل كل أنظمتهما المتعاقبة، كبح جماح التطلعات القومية البلوشية التي اعتبرت على الدوام تهديدا لوحدتهما و استقرارهما. و يمكن القول أن تزايد تعاونهما في السنوات الأخيرة له علاقة بمشروع لمد خط أنابيب الغاز من إيران إلى الهند عبر باكستان و الذي يمر الجزء الأكبر منه في أراضي بلوشستان الكبرى ويلقى معارضة من مواطني الأخيرة بحجة انه لن يعود عليهم بأي نفع.
لا شك أن هذه التطورات غير المسبوقة هي مؤشر إلى وجود تمرد آخذ في الازدياد في بلوشستان الإيرانية التي تعد الأفقر و الأكثر إهمالا و تخلفا في إيران، رغم لجوء طهران إلى النفي المتكرر. فالأخيرة لئن عمدت إلى إلقاء مسئولية هذه الحوادث في البداية على جماعات تتاجر بالمخدرات، فإنها سرعان ما عادت لتقول أنها من عمل المرتبطين بالقاعدة و نظام طالبان الأفغاني المدحور مع توجيه أصابع الاتهام إلى المخابرات الأمريكية والبريطانية التي بحسب زعمها تستغل العوامل القومية و المذهبية لتجنيد البلوش الموالين للتنظيمين المذكورين و دعمهم بالمال والسلاح للإخلال بأمن و وحدة إيران، لكن دون أن تفسر لنا كيف تدعم واشنطون و لندن جماعات إرهابية أصولية هما في حالة حرب معها.
لا توجد إحصائيات ديموغرافية دقيقة يعتد بها لجهة التقسيمات القومية و المذهبية للشعب الإيراني، و بالتالي فمثلما يصعب التوصل إلى العدد الصحيح للقوميات الآذرية و العربية والكردية و التركمانية فانه من الصعب معرفة عدد بلوش إيران. لكن التقديرات تشير إلى وجود ما بين 10 – 15 مليون بلوشي موزعين على إيران و باكستان و أفغانستان، و أن عددهم في إيران قد يصل في أفضل الأحوال إلى 4 ملايين نسمة يدين غالبيتهم الساحقة بالمذهب السني و يعيشون في منطقة صعبة لجهة التضاريس و متخلفة لجهة الخدمات و التنمية، و ذلك كنتيجة للإهمال الطويل سواء من جانب النظام السابق أو الحالي.
و يبدو أن هؤلاء قرروا استغلال الأجواء العدائية الراهنة ما بين طهران و الغرب، معطوفة على المناخ المشحون ما بين سنة المنطقة و شيعتها كنتيجة لتداعيات الوضع في العراق، في التمرد على النظام الإيراني، عل ذلك يجلب الاهتمام لقضيتهم التي ما برحوا يشبهونها بقضية الشعب الكردي. و في هذا يعتبر تحركهم أيضا صدى لما يقوم به منذ بعض الوقت إخوتهم في باكستان الذين وجدوا في مآزق نظام برويز مشرف و مخططاته لاستغلال ثروة بلوشستان من الغاز فرصة للانتفاضة.
أما طهران التي دأبت على نفي وجود تمرد أو انقسامات اثنية حادة بين القوميات المكونة للشعب الإيراني، فتبدو عبر عملياتها ضد البلوش و اتهاماتها لهم بالإرهاب والارتباط مع القاعدة و طالبان كما لو أنها تريد أن تقول أنها مثل باكستان تحارب على جبهة مقاومة الإرهاب، عل ذلك يخفف عنها الضغوط الغربية ذات العلاقة بملفها النووي أو دورها في العراق.
وفيما يتعلق بجماعة ” جند الله” التي برزت على سطح الأحداث كقائدة للتمرد، فان المعلومات المتوفرة حولها قليلة. إذ لا يعرف عنها سوى أنها تنظيم ميليشاوي تأسس في عام 2002 ويستخدم العنف ضد أهداف إيرانية محلية بما في ذلك مسئولي الحكومة و الأمن و رجال الحرس الثوري، بذريعة أن القومية البلوشية فشلت في إقناع طهران بالطرق السلمية بحقوقها المذهبية والسياسية و التنموية، و أن صوتها غير مسموع في العالم. وبالمثل، فالمعلومات المتوفرة عن قائده لا تتعدى انه شاب ملتح لم يكمل الرابعة و العشرين من العمر هو ” عبدالملك ريغي ” الذي لا يزال حيا خلافا لما ادعته طهران من أن قواتها نجحت في قتله في ابريل من العام الماضي مع 11 من أعوانه قرب الحدود الأفغانية في عملية عسكرية. حيث ظهر الرجل بعيد هذا الإعلان في شريط فيديو عرضته قناة ” العربية” ليكذب الادعاءات الإيرانية وليصفها بالحرب النفسية من اجل تهبيط عزيمة الشعب البلوشي. أما ارتباط التنظيم بالقاعدة أو طالبان فلا يوجد عليه دليل دامغ سوى أن اعضاءه مثلهم كمثل غالبية البلوش يغلب عليهم طابع المحافظة و التشدد الديني وهاجس التدخل الأجنبي في شئونهم. كما أن وجود علاقة للتنظيم بتنظيم آخر يحمل الاسم نفسه ويمارس العنف و التفجير و الحرق ضد الأقلية الشيعة و مساجدها في باكستان غير مؤكد.
وعلى خلاف المتوقع من قادة مثل هذا التنظيم، قال عبدالملك ريغي في مقابلة نادرة له عبر الهاتف مع صحيفة “امروز” الإيرانية في مايو الماضي أنه متمسك بهويته الإيرانية، نافيا أن بلوش إيران يسعون إلى الانفصال عن الكيان الإيراني، و مضيفا أن غاية مطالبهم هو تحقيق العدالة والمساواة و التنمية ضمن دولة ديمقراطية فيدرالية مكونة من بلوشستان ذات سيادة و إيران. وهذا إن صح فانه يمثل نهجا يعتمد شيئا من الواقعية ولا يراهن على الأحلام كما في حالة جماعات متمردة أخرى. و هو يتناغم أيضا مع رؤية ” حزب شعب بلوشستان” و هو حركة لها موقع اليكتروني وتقول أنها تناضل فقط ضد سياسات التمييز و القمع و الإهمال الطويلة في بلوشستان على أيدي النظام الإيراني الحالي، و قد تكون بمثابة الجناح السياسي لجند الله.
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية