عندما كنا تلاميذ في مرحلة الدراسة الابتدائية، كانت وزارة المعارف (التربية والتعليم حالاً أي حالياً) توزّع علينا جميعاً – من يدفعون مصاريف أو من حصلوا على المجانية – جميع الكتب المقررة في طبعات أنيقة، ومعها كل الكراريس اللازمة للاستعمال طوال العام الدراسي.
لاحظت – كما لاحظ غيري – أنه كانت توجد على ظهر كل كراسة ما سمي “إرشادات”، وهى – في حقيقة الأمر – كانت نظاماً أخلاقياً ورسماً سلوكياً، يبدأ بالتلاميذ في المرحلة الابتدائية – وكانت فترتها أربعة سنوات دراسية – ومنهم ينتقل إلى الآخرين، أسرهم ومن يتعاملون معهم، بما مؤداه أن ينتظم المجتمع كله – على مدى سنوات قليلة – في نظام أخلاقي واتجاه سلوكي واحد.
إلى جانب ذلك، كان المعلمون، كما كانت المدارس، على المستوى اللائق لتربية سليمة وتعليم صحيح، بحيث كان التأكيد دوماً على العلم الراقي والأخلاق الرفيعة.
وعن دور العلم والأخلاق، كانت تتردد أبيات من الشعر تفيد هذا المعنى منها بيت الشعر الذي قاله شاعر النيل حافظ إبراهيم:
وارفعوا مصركم على العلم والأخلاق
فالعلم وحده ليس يجدي
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي، في شأن المعلّم في ذلك الوقت:
قم للمعلم وفّه التبجيلَ.. كاد المعلم أن يكون رسولاً
وقال عن المدارس في قصيدته المتميزة “مصاير الأيام”:
بيوت منزهة كالعتيق
فكأن المدرسة آنذاك كانت كأهم المساجد عند المسلمين. وهذا التقرير لم يكن من فراغ، بل كان وصفاً حقيقياً للمدارس في أيامه، وأيامنا.
وكانت الشهادات الفصلية (كل ثلاث شهور) تتضمن بياناً عن السلوك والنظام، فكان كل تلميذ يحرص على أن يكون سلوكه سليماً صحيحاً، وأن يعمل على الانتظام في الدراسة والأنشطة الأخرى المكملة لها، كحصة الأشغال التي كانت تُعلم كيف يعمل التلميذ بيديه ليصنع شيئاً بسيطاً فيتعلم بذلك القدرة على الصنع والإصلاح وعلى استعمال يديه في غير الكتابة، وهو أمر لاحظته في المدارس الأمريكية فيما بعد.
أما في مرحلة الدراسة الثانوية فكانت تتنوع فيها الملاعب والأفنية (جمع فناء) التي يقضى فيها الطلاب وقت “الفسحة” أي الوقت بين الفصول أو في الصباح الباكر. أما المكتبات فلم تكن تخلو مدرسة من مكتبة كبيرة، ومكتبة صغيرة مخصصة لاستعارة الكتب للقراءة خلال الفسحة إن أراد بعض الطلبة ذلك، وكانت توجد الملاعب الرياضية، ودورات مياه كثيرة ونظيفة. وكان يُوزع بالمجان على كل طالب كتابين خارج موضوعات الدراسة كل عام. وأذكر أنه سُلّم إلينا في أحد السنوات ديوان شوقي (الشوقيات، الجزء الثاني) وعبقرية عمر للعقاد.
كان أهم نشاط فكرى وأدبي يؤديه التلاميذ بالمدارس الابتدائية والطلبة في المدارس الثانوية هي مساجلة في حفظ الشعر، فيقول الأول بيتا من الشعر ويرد عليه الثاني بيت من الشعر يبدأ بأخر حرف من بيت الشعر الذي قاله مساجلة، ثم يرد الأول ببيت من الشعر يكون أول حرف فيه هو آخر حرف في البيت الذي قاله مساجلة، وهكذا يستمر السجال طويلاً، والبارع فيهما من يحفظ أبياتاً كثيرة من الشعر بحسن إستدعائها من ذاكرته بسرعة وفى الوقت المناسب.
تلك كانت حالة المجتمع المصري وقت الأربعينيات، وهو ما جعل المجتمع كله على علم وخلق.
وكان القانون الأخلاقي الموجود على كل كراسة يبدأ بثلاثية مقتضاها:
إذا طَلَبت من أحد شيئاً قفل: من فضلك،
وإذا أعطاك أحد شيئاً فقل: أشكرك،
وإذ وقعت في خطأ فقل: إني آسف.
ولكي يبين الفرق بعدما حدث في العهد الانقلابي الذي بدأ يوم 23 يوليو 1952 وظل حتى ابتداء ثورة 25 يناير 2011، أنه لم يعد في المجتمع لا علم ولا خلق، وصارت المدارس إسما على أبنية لا تصلح للتعليم والتربية. وهبط حال المعلمين فصاروا متكالبين على إعطاء الدروس الخصوصية. وإذا أريد إعادة صياغة الثلاثية المنوه عنها. فإنها تكون – طبقاً للواقع قبل الثورة المنوه عنها:
إذا طلبت من أحد شيئاً فقل: بغلظة هات، أو أخطفه عنوة وبالإكراه،
وإذا أعطاك أحد شيئاً فقل: ماشى، أو لا تقل شيئاً فإنما أعطاك بعض حقك،
وإذا أخطأت فقل وأنت تتأهب للعراك: ما حصلشي حاجة، وإيه يعنى؟ إنت السبب، وما في هذا المعنى، الذي يبعد عن الأخلاق وينأى عن التهذيب.
بكل أسف، فإن هذا الاتجاه غير الأخلاقي هو الذي ما زال سائداً بعد الثورة كما أن الالتفات عن العلم ودوره في الرقى بالمجتمع ما زال غائباً – فكل الكتّاب والمتحدثون يكتبون أو يتحدثون عن السياسة أو عن مشاكل المجتمع الاقتصادية، وربما يضع البعض حلولا وقتية وسريعة، هي في واقع الأمر مطلوبة وضرورية في المدى القصير، لكن لابد أن يواكبها ويصاحبها اتجاه قوى واضح لإعادة بناء الشخوص والأفراد والمجتمع كله على العلم الرصين وعلى الأخلاق المتينة.
وقد ألمح إلى ذلك متحدثين. لكنهم فعلوا ذلك في كلام عام وبسرعة، فلم ينتبه إليه أحد. كما أن الصحف والمجلات وقنوات التلفاز لم تخصص صفحات فيها أو مساحات بها للكلام عن ذلك والتأكيد عليه؛ بحيث لا يكون الكلام شارداً والقول عابراً.
في التسعينيات نشرت كتابي “ديوان الأخلاق” فكان احتفاء المجتمع به غير كبير، ذلك لأن التعليم بات يؤسس على نشر أيديولوجيات، إسلامية من جانب أو قومية من جانب آخر. ولم تكن هناك جدوى من دق أجراس الخطر للمسئولين، لأن همهم كان ينحصر في البقاء في السلطة واكتناز الأموال، حتى وصلت نسبة الأمية إلى 40٪ كما يقال، كما أن نسبة من هم تحت خط الفقر 40٪، ويلوح أن الإصلاح يتطلب وقتاً طويلاً، قد يُستنفد صبر الناس قبله، فيُنكرونه ولا يساهمون فيه، مما يجعل الإصلاح مستحيلاً.
مصر هذه التي هي القائد للأمة العربية والرائد للبلاد الإسلامية في حاجة لنظرة أخرى حتى تنهض من كبوتها التي زادت وتتخلص من أزمتها التي طالت، ولا يكون ذلك في التقدير السليم – إلا بالعودة إلى تاريخها القديم واستكناه الحقيقة منه.
فمصر منذ الأزل، وكما يقول العلماء الثقاة، صفحة السماء؛ على سمائها ترفرف روح الله، وفى أرضها تنزرع كلمة الله. وقد كانت منذ بداية التاريخ مثوى العلم ومأوى الأخلاق. وتظهر وتعلو نتائج العلم من الأبنية التي عجزت أي حضارة أخرى حتى الحضارة المعاصرة عن الوصول إليها، الأهرام والعابد وقبة معبد دندرة التي رُسمت عليها بأناقة، البروج السماوية وما فيها من نجوم. مما دعا العلماء في باريس أن يقولوا إنه لا يمكن لشعب أن يرسم قبة كهذه إلا إذا كان على علم للفلك ومتمرس في الفن مدة عشر آلاف سنة قبل رسمها. وكذلك فن التحنيط الذي لا يعرف طريقته أحد حتى اليوم، هذا فضلاً عن دقة الصنع ورقة الإبداع في أشياء أخرى مثل ما عُثر عليه في قبر توت عنخ آمون، وما يوجد في متحف أكسفورد ببريطانيا.
وإلى جانب هذا العلم المتقدم والمُتقن، كان التأكيد على الأخلاق التي كانت تتلخص وتتركز فيما سمي بمبدأ “ماعت”، وهو الحق والعدل والاستقامة والنظام.
فالعلم والخلق كانا قسيمان يتقاسمان وخيطان يتناسجان في الحضارة المصرية القديمة، وفى الإنسان المصري آنذاك.
وفى ذلك فقد كان لسان حال المصري يردد “لقد وضعت الإله – الذي هو الحق والعدل والاستقامة والنظام – في قلبي”. “إن ماعت (سيدة الحق والعدل والاستقامة والنظام) أبدية، وهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر، وهكذا تكون استقامة كلمة الله”.
إن روح الله ترفرف في سماء مصر، وإن كلمة الله تتألق في أرض مصر، وقد عادت تلك الروح وطرحت هذه الكلمة، وتعين على المصريين، خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011 التي كانت نفحة من روح الله وصدى لكلمته، أن يعتصموا بالعلم وأن يركنوا إلى الأخلاق؛ فبهما تعود الروح وتسود الكلمة، ويعلوا القانون الأزلي الذي يتحدد في الحق والعدل والاستقامة والنظام.
وبغير ذلك لن يكون فلاح، ولا يكون نجاح.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة