قد يتهيب الكثيرون من مجرد التفكير في أمر خطير وبشع مثل وجود أسلحة كيمياوية في مخابئ حزب الله. إلاّ أن تنظيم معطيات الأسبوعين الأخيرين في نسق تحليلي منطقي يدفع إلى الاعتقاد بأن التوتر العصبي الذي غلب على تصريحات قادة الحزب لا يعود فقط إلى فشل تكتيكاتهم في عرقلة مسيرة المحكمة الدولية، إنما إلى تزايد وتراكم التلميحات الأوربية والعربية عن الضربة العسكرية لإيران، ودور الحزب في الردّ.
لذلك على العرب، وقبلهم اللبنانيين، عدم الانصياع إلى المحرمات التي يفرضها السيد حسن نصر الله على حرية تفكيرهم في كل الاتجاهات، لأن ما يتعرض له اللبنانيون منذ بداية سلسلة الاغتيالات المعروفة، من ضغوط نفسية واقتصادية وسياسية على يد حزب الله وحركة أمل، يخلو من الرحمة، ولن نقول إلى الحس الوطني بالمشاركة في كل الأحزان التي تمر بلبنان، وعندما تفقد فئة ما هذا الحس، علينا أخذ كل الاحتمالات بالحسبان!
لعل آخر تصريح لأحمدي نجاد، أعني التصريح الذي هدد فيه بـ “قطع اليد التي تتعرض لإيران” يأتي رداً على تحذير الرئيس الفرنسي شيراك للمسؤولين في طهران من الاستهانة بنوايا أمريكا لتدمير إيران إذا ظلوا يتحدون مطالب مجلس الأمن الخاصة بإيقاف التخصيب، وفي نفس الوقت رداً على دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز طهران ودمشق للاعتدال في سياستهما الخارجية، المتطابقة. إلاّ أن تهديد أحمدي نجاد، الذي أراد به طمأنة شعبه الذي بدأ الخوف يدب في صفوفه، لا يقصد به قطع يد أمريكا بالذات، بل تحركها السياسي في المنطقة، ومصالحها، وعلاقاتها الإقليمية.
هنا يتكاتف عاملان، التحذير الدولي والتهديد الإيراني، في شحن أعصاب حلفاء طهران بالتوتر، حيث انعكس على تصريحات لقادة حزب الله هددوا فيها اللبنانيين بإشعال الحرب الأهلية إذا تولى مجلس الأمن إقرار المحكمة الدولية حسب المادة السابعة، إضافة إلى تهديدات مشابهة بالحرب الأهلية ألمح إليها الأستاذ نبيه بري لكن بصوت خافت، أي على استحياء، كونه ما زال يتذكر أنه رئيس برلمان يمثل كل الطوائف والفئات!
وبهذه التصريحات بات إشعال الحرب الأهلية، التي كان نصر الله يستغفر الله عندما تذكر أمامه، واحداً من أدوات التهديد التي تتردد على لسان أي مسؤول في الحزب، وباتوا في تراجع مستمر عن التعهد السابق بعدم استخدامها لإملاء شروطهم على اللبنانيين!
أكثر ما يزعج نصر الله في الضربة الأمريكية لإيران أنها قد تدمر كل أحلام شبابه في قيام إمبراطورية شيعية تمتد من البحر الأسود شمالاً إلى اليمن والصومال جنوباً والمغرب غرباً، أكثر من ذلك تدمر زعامته التي أضاءت عربياً أثناء إطلاق الكاتيوشا على إسرائيل، ثم انطفأت بسرعة عندما وجّه صواريخه نحو الداخل لفرض إرادته السياسية على السنة والمسيحيين والدروز. وليس ضرب إيران وحده ما يقلق حسن نصر الآن، بل وتوجه مجلس الأمن نحو تفعيل القرار 1701 والقرار 1559، وكلاهما يدعوان إلى نزع سلاح كل الميليشيات لتتولى الدولة مهمة الأمن على الأراضي اللبنانية، مما يحرم الحليفين (بري-نصر الله) من دور “مهم” مطلوب منهما أداءه حالما تتعرض إيران لضربة أمريكية. فما هو هذا الدور؟
منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، انتهى عملياً دور المقاومة التي أنشأت طهران حزب الله باسمها، وبعد حرب 12 تموز ودخول قوات دولية مساندة لليونيفل لم يعد لحزب الله أي دور يقوم به في الجنوب، لذلك تحول الحزب من مقاومة ضد الاحتلال إلى مقاومة ضد الداخل. وحين قال الدكتور سمير جعجع “إن المقاومة أصبحت عبئاً على لبنان”، كان يعبر فعلاً عن نظرة اللبنانيين إلى حزب الله، وما يمثله من عبء ثقيل بسبب استخدام سلاحه لتهديد اللبنانيين كلما فكروا في خطوة سياسية نحو الأمام.
إذن، ما هو الدور المطلوب من حزب الله لقطع يد من يضرب إيران؟ وإذا كان المقصود إسرائيل، هل يستطيع عشرون، وحتى مائة ألف من صواريخ الكاتيوشا إنهاء وجود إسرائيل، المعروفة بملاجئها المدنية الحصينة، وطيرانها الحربي المتفوق؟
منذ تولى أحمدي نجاد رئاسة الجمهورية الإسلامية وهو يبحث له عن موقع مميز في الصراع العربي الإسرائيلي، فهو يردد في خطبه ولقاءاته “نبوءة” تقول بزوال إسرائيل من الوجود، بل واقتراب هذه النبوءة من التحقق يوماً بعد يوم! وفي آخر زيارة قام بها حليف طهران الجديد (خالد مشعل) في 5 مارس الماضي، قال نجاد: “إن الكيان الصهيوني يتجه نحو الاضمحلال. وإن الوعد الإلهي بات قريباً”
هذا يعني أن المسألة، حسب التوقيت الديني الإيراني، باتت على مسافة “شمرة عصا”. وقد كان لهذه التصريحات التي تفتقد التوازن السياسي والعقلي الأثر الأكبر الذي حمل واشنطن وبعض دول أوربا على التفكير في رد فعل عسكري استباقي، على غرار ما فعلت إسرائيل عام 1981 بالمفاعل النووي العراقي، مع استهداف القدرات العسكرية الإيرانية هذه المرة، لما تمثله من تهديد لأمن واستقرار بلدان الشرق الأوسط، وليس أمن إسرائيل وحدها!
تتجه المنطقة العربية الآن، وعبر مشروع ضخم للسلام، نحو تسوية الصراع العربي الإسرائيلي بالتفاوض على حل يعيد الأراضي السورية في الجولان، وتنسحب إسرائيل بموجبه من جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 ويحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة، وتشمل التسوية أراضي شبعا التي يرفض السوريون الاعتراف بحقهم أو حق لبنان فيها. وإذا رفضت دمشق هذه الصفقة لن تستطيع استرجاع الجولان بالقوة، إلا إذا أراد بشار الأسد الرهان على نبوءات إيران.
ولأن طهران تعتبر تسوية كهذه التفافاً عربياً ودولياً على طموحاتها الإقليمية في المنطقة، فإنها ستلقي بثقلها على مصادرها الإلهية لوضع تسوية مختلفة للصراع، أساسها التركيز على مسألة إزالة إسرائيل برمتها من الوجود، ثم تكوين إمبراطورية شيعية تحكم عموم الشرق الأوسط. أي تحقيق حلم فترة شباب نصر الله.
قد يبدو للبعض أن وراء الإيمان بهذا الحل نوع من العته الفكري، أو شطط مذهبي، يؤدي أحدهما، أو كلاهما، إلى اهتزاز في الوعي الطبيعي للشخص! مع ذلك فإن من يتشبث به ويردده رئيس جمهورية إيران الإسلامية، وتصدقه قيادات فلسطينية في الحكم، وقيادات سورية، وقيادتي حزب الله وحركة أمل، وهنا يكمن الخطر على لبنان وشعبه!
فإذا وجهت أمريكا ضربتها الجوية لإيران، وجاءت مدمرة كما يتوقع العسكريون، سوف يرد أحمدي نجاد بإطلاق صواريخ برؤوس كيمياوية على إسرائيل انتقاماً وتحقيقاً للنبوءة الإلهية المذكورة، أما إذا نالت الضربة العسكرية مخزون إيران من هذا النوع من السلاح المحتمل الذي كثيراً ما هدد به نجاد، فإن الدور المرسوم لحزب الله هو القيام بما يعوض. أي إطلاق كاتيوشا أو صواريخ تحمل مواداً كيمياوية على مدن إسرائيل الكبرى، لأن القذائف العادية التي أطلقها الحزب على شمال إسرائيل لن تأتي بنتائج ذات قيمة، بمعنى “إلهية الحسم”
السؤال الأخير، لماذا نفترض دوراً مرسوماً بهذا التحديد الدقيق للسيد نصر الله، اللبناني الجنسية؟
أولاً: إن نصر الله شخص ربط مصيره وعاطفته بطموحات وسياسات إيران الإقليمية، ويتحكم في ولائه لرسالة إيران المذهبية استعداد انتحاري استشهادي، لذلك لا أراه سيتردد لحظة واحدة عن وضع لبنان وشعبه في الزورق الإيراني المضطرب عندما تقتضي الحاجة.
ثانياً: لن يجد نصر الله في ضرب إسرائيل بمواد كيمياوية خطأ استراتيجياً أو وطنياً. استراتيجياً، لأنه سيكون بمثابة رد انتقامي لعمل أكبر (تدمير قدرات إيران النووية والعسكرية) أما وطنياً، فالسيد نصر الله تجاوز الروح الوطنية “الضيقة” إلى روح مذهبية أشمل، مركزها الديني والعاطفي طهران ومدينة قم وإيران العظمى.
ثالثاً: مهما جاءت الخسائر البشرية في صفوف شعب لبنان إذا ما ردت إسرائيل بأسلحة مشابهة، فلدى نصر الله قناعة “استراتيجية” بأن الأنفاق والمخابئ التي يعيش داخلها نصف عناصر حزب الله سوف تحميهم من الأذى المباشر، وتسمح لهم، بعد امتصاص الضربة الإسرائيلية الكيمياوية، بالخروج من تلك الأنفاق والمخابئ لتطهير لبنان من أعداء إيران وسوريا، وإقامة حكومة وطنية يديرها الحزب ومن يتبقى من الموالين له.
هذه الاحتمالات تبدو مستبعدة فقط لأنها ممنوعة من التداول، أي مسكوت عنها، إلاّ أنها، عملياً، تلائم المهام الكبيرة لإنشاء قاعدة إيرانية عسكرية ضخمة بحجم حزب الله في جنوب لبنان، وعلى العرب واللبنانيين دراسة هذه الاحتمالات بدقة، كما أن على قيادة اليونيفل وقيادة الجيش اللبناني البحث، ميدانياً، عما يؤكدها أو يمنع حدوثها في الأسابيع والأشهر القادمة.
arifalwan@yahoo.com
* كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا