كنت قلت في مقال سابق إنني لم أفهم حتى الآن محاولاتنا لشق طريق حوار مع السلطة في سوريا، ذلك لأن من يمتلكون السلطة الآن لا يعيرون اهتماماً لأحد غير مناصبهم ومصالحهم، ورحت أتمنى أن يكف مثقفونا عن هذه المحاولة لأنها تشبه عمل سيزيف، ضياع للأعمار والأوقات.
لكن حين وصلني نبأ: “حياة د عارف دليلة في خطر” وخشيت على الرجل، وتراءت لي صورته جالساً في انفراديته بقدم مسودّة وينتظر.. وحين لم أفهم حجم الذنب الذي يستحق من أجله هذه العاقبة فكرت أنه من الأجدى الحوار مع صاحب قرار سجنه، وسؤاله إلى متى سيبقى الرجل هكذا!
ولكن من هو صاحب قرار سجنه؟ حقاً لم أستطع تحديد هذا الذي علينا محاورته لنحاوره. بدت لي كلمة السلطة مبهمة ومشوشة. كلمة السلطة كما تربينا عليها، عبارة عن صور ولافتات وميكروفونات وتصريحات ملغومة بكثير من التهديدات، ومن ثم تراءت لي سورية كلها فقيرة وخائفة ومتخلفة.
ولأنني لم أستطع تحديد هيئة السلطة أو شخصها فقد قربت النظر كثيراً ورأيت أنه من الممكن أن نتحاور مع الشخص الذي يقدم الطعام للسجين، ولكن ماذا نقول له ونحن نعرف جوابه وجواب الآخرين مثله: ليس بيدي فعل شيء.
حين أتذكر فائق المير هذا الرجل المرح، المشاكس بحب لزوجته اللطيفة، النشط، كثير الحركة، أفكر: كيف تتسع له مساحة السجن؟
أتذكر من التقيتهم لأوقات قصيرة، أنور البني، أكرم البني.. وأتذكر كل الذين يقبعون في السجن وأعرفهم من خلال كتابتهم أو من خلال أصدقائهم. لم أفهم حتى الآن تهمهم ولم أفهم كيف يتجرأ القضاة على المشاركة في إلقاء تهم تافهة ومن ثم فبركة قضايا بعناوين كبيرة تنصب من أجلها المحاكم وتشرع أبواب السجون.
لو أخبرت شخصاً غربياً عن تهم هؤلاء، فلان يحاكم لأنه وقّع على بيان الصداقة والسلام، وفلان يحاكم لأنه زار فلاناً، أما هؤلاء بالجملة فيحاكمون لأنهم اجتمعوا وتناقشوا وحللوا واقع مجتمعهم وبلدهم.. سينظر إليك بعدم تصديق، هذا إن لم يسألك بحذر بالغ: ألا يمكن أن تكون التهم الحقيقية سرية وخطيرة حقاً على أمن البلاد، وأنتم لا تعرفونها؟
أما الغالية فداء ، اليوم يقولون إنها صارت في “دوما” في سجن النساء، الأمر مضحك إلى درجة البكاء، أتخيل وجوه السجينات مبهوتات بذلك الحسن الداخل عليهن، أتخيلهن يتمتمن: من هذه الأكابر؟ وأتصورهن متجمعات حولها يسألنها عن تهمتها، وأتصورها تجيب بكل تروّ واحترام. وتقضي الليل تصغي لشكاوى النساء الطبية وتعالجها ناسية تماماً أنها ليلتها الأولى في سجن النساء.
أما نحن فليس أمامنا إلا أن نتابع الأخبار، وننتظر.
ثم ماذا بعد؟ إلى متى يبقى الشعور يائساً، والعمل ضعيفاً؟ وما هي تلك الوصفة التي يمكن أن نبتلع دواءها لنقضي على كل هذه الأمراض؟ وكيف نساعد الأصدقاء الذين نحس أنهم ينتظرون فعلا حقيقياً يخرجهم من وراء القضبان؟. هم من يدفعون الأثمان ولا يجنون إلا التعب والوحدة، لأن الشعب الخائف، لا يستطيع حتى أن يقول لهم “يعطيكم العافية” ذلك لأن الرعب يشل لسانه، هذا إن لم يكن شعور بعضهم تشكيكاً بنزاهة هؤلاء. إذ يقول لسان حالهم: كيف يتجرؤون، لو لم ينالوا الضوء الأخضر؟
أو أن اليأس قد ملأ النفوس مما يجعل كثراً منهم يقولون: كل من يستلم المناصب بالضرورة يصبح متجنياً وظالماً.
أرسلَت صديقة تسألني: ماذا لو أن هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم وتطالبين بالإفراج عنهم، ماذا لو استلموا المناصب يوماً وقاموا بممارسة ما يمارسه أصحاب المناصب الآن، كيف سيكون موقفك من قرائك، وكيف ستسحبين كلامك؟ ماذا لو ارتكبوا الأخطاء، ألن يصيبك الندم حين تتذكرين أنك قلت عنهم إنهم كالأنبياء؟
أجبتها:
وقتها سوف أكتب لمن قد يُدفع إلى السجن ظلماً.
قد يصيبنا الحماس، بل يصيبنا كثيراً، ونندفع للكتابة حين نغضب أو نحزن أو نفرح، ذلك لرغبتنا بأن يشاركنا الآخرون مشاعرنا فتغدو الحياة أغنى وأحلى. ويحدث أن نكتشف أننا تسرعنا مثلاً في اندفاعنا وأن تلك الكلمات وهذا المقال والذي كتب في ذلك الحين لم يعد متناسباً مع هذا الحين وأنه كان من الأجدى أن لا نقرأ واقع كل يوم ونكتب عنه، بل أن نقرأ واقع الأمس ونكتب عنه اليوم.. و لكن ما الضير في أن يكتشف الكاتب بأنه تسرع في هذا، وأن عليه أن يصلح اليوم ما ثبت أنه خطأ البارحة؟.
قلت لها: وقتها سأكون منشغلة بالدفاع عن المعاقبين ممن هم الآن ملوك وحكام، ليس دفاعاً عن الظلم ولكن دفاعاً عن الإنسانية التي لا تقبل السجون ولا المشانق، وسيكون من دواعي الإنسانية حينها أن نتحاور معهم وهم في ضعفهم، ذلك لأنه ضعف الإنسان. ضعف الإنسان محترم، مهما كان وأينما كان، قوة إيجابية، إذ ما أحلى النادم والمتراجع والمعترف بذنبه.
بعد أيام قليلة الذكرى السادسة والعشرون لمجازر حماة، ولأن الأمر على مدار العام وليس فقط في الشهور الأولى من كل عام يستذكر الذين تربوا أيتاماً وأمهاتهم الثّكالى والرجال الذين أهينوا حتى العظم، وأصحاب الأرزاق التي نهبت، والأطفال الذين عُذّبوا، وأهل الأحياء التي هدمت، وكل من شهد الوقائع الفظيعة، يستذكرون ما حدث لهم، بألم ممض وبسكينة مسالمة تجعل المراقب القريب يقول إنها حقاً خالية من الحقد، وخالية من العداء، ذاكرة متعبة ومشوشة ويائسة، وحين تسأل أحدهم، إن سنحت الفرصة لك كيف سيكون الانتقام، أغلبهم يجيب: ومن أقاتل، وممن “أستدّ”؟ أنا لا أعرف ظالمي.
تبيان الحقيقة لا يعني الانتقام، ولا بالضرورة سيؤدي إلى حمّامات الدم كما يحلو للكثيرين التبشير بها والتنبيه إليها. ويحلو لأغلب المنظرين بأن ينصحوا بطي الصفحات، كأنهم بطي الصفحات يلغون الذاكرة والآلام التي نشأ جيل كامل عليها ومنها، هؤلاء أصحاب الحق، إن لم ينصفوا على الأقل بالاعتراف علناً بأن ظلماً وقع عليهم، كيف ستنقى ذاكرتهم ويشفى شعورهم!
بالطبع لا نشتهي لأحد مهما كان، نهاية مثل نهاية صدام حسين، لا نريد أن نرى أحداً يخرج من حفرة ذليلة ولا أن يمكث في سجن صدام ولا في محكمته ولا يضطر كاذباً لحمل مصحفه ومن ثم لا نتمنى لأحد مشنقة صدام.. لا نريد عقاباً لأحد، ولكن من حق شعور المظلومين أن نبين الحقيقة، من حق التاريخ والعدل أن تعلن الحقيقة.
تخيلت لو أن هذا الرجل، صدام حسين، الذي قضى حياته يطغى ولا يرى من هذا الشعب ومن هذا البلد إلا ما يعزز جبروته وطغيانه، فكرت، ماذا لو أنه وقف ذلك اليوم في المحكمة وقال أنا نادم وأريد أن أعترف، أترى بتوبته واعترافه وندمه الذي كان بالتأكيد سيسجله التاريخ، ترى لو فعل هذا، ألا يشفي غليل الحاقدين؟ وتصفو نفوس المظلومين وهم أغلب الشعب العراقي؟
ربما يقال إن ما أكتبه الآن إنشاءاً أو شعراً لا يمكن أن يقبله الواقع، ولكن ماذا لو أن كل حاكم أعلن عن توبته ومن ثم ندمه على أخطاء ارتكبها بدافع منفعته أو نزعاته أو ساديته، أو حتى بدافع من ظرف معين أجبره على تلك الممارسات، ألا كان يمكن أن يقطع طريق الفتن ويجنب البلد مليون ضحية أو أكثر؟ وإن صاح الشعب: أبداً لا نقبل توبته.. وهذا وارد بالطبع، لكن هل سيكون رفضهم موتوراً كما حدث حين ظل على مكابرته وعنجهيته؟
ماذا لو أن كل ديكتاتور وقف اليوم على المنصة وقرأ كلمته التي كتبها ليلاً، وهو يتذكر كل أساليبه التي مارسها وارتكبها، سجلها في دفتره وأسقط الستار وطلب من شعبه العقاب الذي يستحق..؟
سيقال إن الأمر يصلح لمسرحية أو فيلم سينمائي..
ربما سنظل نحن أهل المقال والكتابة نحلم وسيظلون هم أهل القرار بقرارهم يستبدون، ويظل من يشتغلون بالسياسة يشتغلون على طريقة “دق المي وهي مي”، ومن ثم يبقى الناس وهم المعنى الحقيقي، يبقون تحت طاسات باردة وأخرى ساخنة يعانون ويعانون.
* كاتبة سورية-استوكهولم
sarraj15@hotmail.com
ماذا لو أعلن الحاكم توبته!
مقال متميز والكل حزين على الشعب السوري وجارته لبنان .ان فرعون كان محاطا بمافيا مشربة بثافة الاستكبار ومن الصعب على هؤلاء التوبة الا بثورة شعبية او استعمار او قوانين صارمة من الامم المتحدة يقضي عليهم كما في حالة صدام المصدوم