وما هو المخطط الذي جرى إسقاطه؟ وأي رسالة الى بكركي من الأشرفية؟
عندما أطل النائب السابق فتحي يكن من مكتب نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، كان في ذهنه أن ما تمّ رسمه على الورق من مخطط إرهابي تنفذه “فتح الاسلام” قد تحقق فعلاً على الأرض.
كان النظام الأمني السوري الذي يتولى يكن التكلم باسمه، يفترض ان الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي غير قادرين على حسم المعركة لا في داخل مدينة طرابلس ولا في أهم النقاط الاستراتيجية المؤدية الى مخيم نهر البارد.
الرهان السوري بدا مرتكزاً على عاملين غير صحيحين، اوّلهما الانطباع الذي تولده المتابعة الاعلامية اللصيقة للحدث، وثانيهما تأكيد “عملائه” الشماليين ان مجموعاتهم سوف تنضم الى “فتح الاسلام” لإحداث “انتفاضة شعبية” في طرابلس تمنع القوات المسلحة من حسم المعركة.
هذا بالتحديد ما حدا بيكن من مكتب الشرع الى صوغ خطاب “تآمري” مكتوب بأوقح العبارات موجه من خلال اللبنانيين الى المجتمع الدولي.
ثمة حاجة الى مراجعة أدبيات يكن. هو ركّز على أمور عدة يمكن اختصارها بنقطتين:
1 ـ أن الجيش اللبناني غرق في “المستنقع الطرابلسي” وهو يحتاج الى شفاعة النظام السوري لإخراجه منها.
2 ـ إن ما يحصل في عاصمة لبنان الثانية هو نوع من أنواع الحرب الأهلية التي تعطي صدقية لكلام بشار الأسد الى الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في اللقاء الذي جمعهما في دمشق في الرابع والعشرين من نيسان الماضي.
هذا التسرع السوري في الركب على موجة الارهاب التي كانت تضرب شمال لبنان، فضح المخطط والمنفذين. كشف البعد اللبناني ـ السوري لـ”فتح الاسلام”. أماط اللثام عن المتآمرين الحقيقيين على استقرار لبنان. أولئك الذين كانوا يقاتلون هم القناع. أولئك الذين كانوا في مكتب الشرع هم التعبير المباشر عن صاحب الأمرة وعن المتحركين في الكواليس. في ذلك المكتب لم يجتمع “حامل بشرى التمديد الى إميل لحود” مع “الطرابلسي” يكن فحسب، بل مع “بقاعيين” أيضاً على صلة بوجه جديد كان يفترض ان يبرز في ضوء تداعيات طرابلس. إنهما ايلي الفرزلي وعبد الرحيم مراد.
الانتصار اللبناني
بالتأسيس على هذه المعطيات السورية الفاقعة، يمكن إدراك أهمية ما حققه الجيش اللبناني بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي في الشمال. المسألة تتخطى إثبات القدرة على “تنظيف” عاصمة الشمال من القواعد المدنية التي انتشر فيها الارهابيون. في حقيقة الأمر أن الجيش اللبناني والأمن الداخلي حققا نصراً كبيراً للبنان. أثبتا ان لبنان أقوى من الفتنة وأن اللبنانيين أينما كانوا هم جنود للشرعية، وان التستر وراء الانتماء الطائفي لم يعد يوفر حصانة للارهابيين، وأن إشعال الحرائق لم يعد ينفع لأن اللبنانيين قرروا ان يكونوا مواطنين وليس مجرد وقود، وبالتالي فإن معادلات زمن وصاية الامن السوري كانت في حقيقتها معادلات مزورة ومصطنعة ووليدة الإكراه.
وبغض النظر عن حرب تصفية “فتح الاسلام” المطلوبة حاليا من الجيش اللبناني الذي يمكن لقيادته أن تكون مرتاحة الضمير تجاه شهدائها الأبرار، فإن نتائج معركة السبع عشرة ساعة ليست تفصيلا يمكن تجاوزه بسرعة بل هي أساس لا بد من أن تُبنى عليه أمور كثيرة وفي مقدمها قدرة لبنان على تجاوز التهديدات التي يروج لها لتكون العائق أمام تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي. وهذه المحكمة، كما بات ثابتا من السلوكية الارهابية التي تواجهها هنا والسلوكية الانقلابية التي تواجهها هناك، ليست محكمة انتقام من قتلة زعيم بحجم رفيق الحريري، بل هي المعبر الوحيد والضروري الى ترسيخ استقلال لبنان وحماية بنيه وتوفير استقراره في مواجهة نهج بشار الأسد الشمولي والاحتلالي والارهابي.
“حزب الله” و”فتح الاسلام”
ولأن الأمر بهذه الأهمية، يمكن تفسير الصخب الداخلي الذي يفتعله “الفريق السوري” في لبنان على وقع الغبار الكثيف الذي حاولت متفجرة الأشرفية أن تعمي به بصائر اللبنانيين.
وبالفعل ثمة حاجة الى تفسير ما يقدم عليه “الفريق السوري”، لأنه ليس طبيعياً أن تلجأ جوقته الى التعاطي مع الحدث الشمالي الكبير حيث تمت معالجة حقل كبير من الألغام الارهابية، كما لو أن كارثة بدأت تحل بلبنان.
الحسم كان له وقع الصاعقة عليهم. هم كانوا يدعون الى “حل سياسي”، ولكن لما لم تعد ثمة حاجة اليه إرتدوا الى الآتي:
1 ـ محاولة زرع الشقاق بين الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وكأن “فتح الاسلام” ملائكة اضطرتهم الحاجة الى توسل أساليب الشيطان بفعل مطاردة قوى الامن الداخلي “لمجموعة بريئة” كل ذنبها أنها سطت على فرع لمصرف “هو من حق الفقراء والمحرومين” تماما كما هي عليه حال وسط بيروت.
2 ـ إثارة لغط طائفي على خلفية الانتماء الديني لجماعة “فتح الاسلام” بحيث يعطي التلميح نتائج التصريح الصادر في دمشق، أي ان “فتح الاسلام” منظمة موالية لـ”تيار المستقبل”!
3 ـ استحضار مخطط الشرق الاوسط الكبير، بحيث ان الجيش اللبناني كان ضحية له وأن “فتح الاسلام” مجرد فصيل تضعه الادارة الاميركية بتصرف نظام دمشق، بحيث يحركه يوما في العراق ويوما في لبنان.
4 ـ توجيه الفريق السوري من خلال أحد الأقنعة التي يعتمدها ـ في العادة ـ “حزب الله” رسالة واضحة الى اللبنانيين بأن ما حصل في الشمال هو مقدمة “مسلسل بشع سيأتي على كل شيء” في حال “الاستمرار باستغلال قضية الرئيس رفيق الحريري”، على اعتبار أن الناس “يريدون وضع هذا الملف جانبا حتى نستطيع متابعة حياتنا في شكل عادي”.
بكركي وانفجار الأشرفية
كل هذا الكلام الذي يريد ان يأخذ في السياسة ما منع الجيش وقوى الأمن الداخلي أخذه بالارهاب، سبق متفجرة الاشرفية التي بدت كأنها توقيع بالدم والدمار والتخويف.
وهنا، ثمة من يسأل: لماذا الرد على انتصار طرابلس باستهداف الأشرفية؟
الجواب، في ذهن بعض المحللين الاستراتيجيين واضح. بالنسبة اليهم، كان مطلوباً أن تقرأ بكركي ـ بصفتها التعبير عن موافقة المسيحيين على المحكمة الدولية تحت الفصل السابع واصرارهم على انجاز انتخابات رئاسية حرة ـ ما يحصل في طرابلس بعين الخائف من انتشار الاصولية السنية، ولكن عند انتصار الشرعية اللبنانية، وفي ظل أكبر حملة دعائية لـ”فتح الاسلام” بدأت الخطة “ب” التي كان الجميع في انتظارها، أي ضرب المناطق المسيحية لإثارة التفرقة بين المسيحيين والسنة مما يضع بكركي أمام خيارين، إما إضعافها بتقوية الطرف السياسي المسيحي المتحالف مع المحور السوري ـ الايراني والمناوئ لـ”تيار المستقبل” في آن، وإما إجبارها على التراجع عن تأييد المحكمة وقيادة العملية السياسية المنتجة لانتخابات رئاسية استقلالية.
(المستقبل)