المنحى الجديد في الصلة الأميركية – الإيرانية يكرس انقلابا في الجغرافيا السياسية الإقليمية والتحالفات، قد يرسم ملامح مرحلة قادمة في الشرق الأوسط والخليج.
خرج الدخان الأبيض من قصر كوبورغ التاريخي في قلب فيينا، صباح الرابع عشر من يوليو 2015، وجرى التوقيع على الاتفاق النووي المنتظر بين إيران ومجموعة “الخمسة + واحد”.
ما بين المهللين والحذرين والمستنكرين، يمثل هذ الاتفاق للوهلة الأولى نقلة نوعية في العلاقات الدولية، وستكون له تداعياته على التوازنات الإقليمية وعلى النزاعات الدائرة في منطقة متميزة بعدم استقرارها. وهذا المنحى الجديد في الصلة الأميركية–الإيرانية يكرس انقلابا في الجغرافيا السياسية الإقليمية والتحالفات، قد يرسم ملامح مرحلة قادمة في الشرق الأوسط والخليج. لكن الوصول إلى ذلك يتوجب انتظار التطبيق من قبل طهران وموافقة الكونغرس الأميركي ومراقبة الانعكاسات المباشرة على السلوك الإيراني عامة وفي اليمن والعراق وسوريا ولبنان بشكل خاص.
تكثر سبحة الأسئلة عن الطابع التاريخي لاتفاق فيينا، وحول تصنيفه إذ إنه لا يرقى إلى مصاف معاهدة دولية رسمية، لكن مهر الاتفاق بتواقيع كبار العالم يمنحه قوة تنفيذية. في ميزان التقييم تختلف المقاربة بين “النصر القانوني والفني والسياسي لإيران” حسب الرئيس حسن روحاني و”الخطأ التاريخي” حسب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكن قراءة النصوص بعد متابعة مجريات التفاوض في المسلسل الطويل منذ 2003، تتيح القول إنه اتفاق الممكن ومكسب للدبلوماسية متعددة الأطراف والوفاق الدولي حول الهدف أي التأكد من سلمية البرنامج النووي الإيراني.
منذ منتصف 2013 ووصول الرئيس حسن روحاني إلى السلطة وتفعيل القناة الموازية للتواصل الأميركي–الإيراني عبر سلطنة عمان، بدت الدبلوماسية بطيئة ومضجرة ومن دون قدرة على الاختراق… لكن إصرار الرئيس باراك أوباما على تحقيق إنجازه التاريخي، وتلاقي ذلك مع التزامات روحاني أمام الرأي العام برفع العقوبات المؤلمة والانفتاح على الغرب، سمحا بالتوصل إلى تسوية اللحظة الأخيرة، حيث أتقن ظريف وفريقه فن التفاوض والنفس الطويل والمساومة إذ كانوا أوفياء لتقليد تاريخي لمن يحيك السجادة ويبيعها في البازار. وفي المقابل كان كيري المتمرس مع جيشه من الدبلوماسيين والخبراء قد نجح في كسر الجليد مع الجانب الإيراني وإنقاذ ماء الوجه لكل الأطراف تقريبا في سياق الواقعية السياسية ولعبة المصالح وتحت غطاء أولوية ما يسمى محاربة الإرهاب.
فعلها باراك أوباما وتوصّل لتحقيق نجاح دبلوماسي راهن عليه منذ بدء ولايته الثانية. ويمكن للتسوية إذا لم تتعثر أن تفتح الباب لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع طهران. وأخذت إيران تستعد لذلك عبر امتلاك مبنى كبير لبعثتها التجارية في واشنطن ليس بعيدا عن مقر وزارة الخارجية الأميركية حيث يمكن تحويله لاحقا إلى مقر السفارة الإيرانية.
وقبل أن تجف التواقيع في فيينا بدأ زمن الهرولة إلى طهران وسيدشنه كاميرون البريطاني وسيلحقه وزير ألماني وآخر فرنسي. لكن الصفقة هي في الأساس أميركية–إيرانية وكل اللاعبين من الموقعين الآخرين بمن فيهم روسيا والصين هم من الرابحين بشكل نسبي.
إذا عدنا إلى مضمون الاتفاق يمكن القول إن الفريق الأميركي المفاوض يمكن أن يعتدّ بإنجاز لم يكن يتحقق لولا “مشاغبة” الطرف الفرنسي في المفاوضات وإصراره على اتفاق واضح وصلب عبر نظام تفتيش فعال يضمن عدم تحول إيران من قوة نووية على الحافة أو على العتبة إلى قوة عسكرية على الأقل لفترة ما بين عشر وخمس عشرة سنة، وكذلك عبر آلية تتيح إعادة فرض العقوبات الدولية في حال عدم احترام إيران للالتزامات.
وبالإضافة إلى ذلك، تعهدت طهران المصادقة على البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة النووية الذي يجيز عمليات التفتيش الفجائي، وفي ذلك إنقاذ لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ولجهد أوباما منذ خطابه الشهير في براغ. وبالرغم من مساعي موسكو بائع السلاح الأول إلى إيران، انتزعت واشنطن والقوى الغربية استمرار حظر تصدير الأسلحة وتقنية الصواريخ الباليستية إلى طهران بين خمس وثماني سنوات.
في سياق “اللعبة الكبرى” الدائرة في الشرق الأوسط وغرب آسيا، برهنت واشنطن أنها القوة العظمى الوحيدة بالرغم من نكسات سياساتها، لكن التقارب مع طهران يخولها اكتساب وظيفة الحَكَم الإقليمي إذ أن نسيان طهران عمليا لحكاية “الشيطان الأكبر” يترافق مع تخلّ أميركي عن السعي لغلبة محور الخير ضد محور الشر بزعامة طهران.
وفي الحقيقة مهد أوباما لذلك منذ ولايته الأولى، علما أن استراتيجية واشنطن بعد 11 سبتمبر 2001، ومع حرب العراق في عام 2003 تغيرت في اتجاه نسج علاقة مع “الشيعة في مواجهة السلفية الجهادية السنية” وصاغها فيما بعد منظرو الإدارة الحالية تحت عنوان “التوازن الاستراتيجي بين السنة والشيعة”. وفي ذلك نوع من إدارة الحروب الإسلامية–الإسلامية وتحت عنوان محاربة الإرهاب، يتم استمرار التحكم بقوى العالم الإسلامي كي يصب ذلك في مصالح واشنطن.
من جهتها، تبدو طهران رابحة نسبيا عبر تكريس دخولها النادي النووي السلمي والحفاظ على منشآتها وقدراتها العلمية والتقنية وممارسة التخصيب بنسبة ضئيلة مع عدد محدد من أجهزة الطرد المركزي. ونجح الوفد الإيراني في إبقاء موقع فوردو وتحويل طبيعة مفاعل آراك. والأهم بالنسبة لقوة عتيقة وعريقة ليس تجميد العمل بجانب من البرنامج لمدة عقد أو عقدين من الزمن، بل إحراز مكتسبات يمكن أن يحولها قرار سياسي إلى اتجاه بناء القنبلة النووية على ضوء تطورات الظروف. بالنسبة لرفع العقوبات بعد ستة أشهر وعلى أبعد مدى صوب الرابع عشر من يناير 2016 في حال بدء تنفيذ الاتفاق، سيلائم ذلك تماما الرئيس حسن روحاني قبل خمسة أسابيع من الانتخابات التشريعية في فبراير 2016.
تتجه الجمهورية الإسلامية للتخفيف من نفوذ ولاية الفقيه المطلق، وسنرى إذا كان روحاني سيصبح “غورباتشوف” أو ”دينغ هسياو بنغ” إيراني. بيد أن المحك سيكون في قبول المرور من الثورة إلى الدولة وإنفاق المليارات التي سيتم تحصيلها على التنمية لشعب طال انتظاره وليس على المغامرات الخارجية. لكن المحافظين المتشددين ينتظرون روحاني عند أي منعطف وربما تشكل عمليات التفتيش وصعوباتها مخرجا للانقلاب على الاتفاق أو المراوغة في تطبيقه.
سيبدأ الاختبار للتو إذا كانت طهران ستعتبر الاتفاق النووي مكافأة أو رخصة كي تلعب دور الشرطي الإقليمي والحفاظ على مكاسبها مهما كان الثمن، أو إذا كان الاتفاق سيمنحها قسطا من الاطمئنان والواقعية لتغيير نهجها الهجومي. بينما لا تؤخذ التطمينات الأميركية على محمل الجد في أكثر من عاصمة عربية، حاول باراك أوباما رسم خطوط اللعبة عبر القول إنه سيعارض إمدادات إيران إلى حزب الله والحوثيين، وإنه لا يراهن على دور إيراني إيجابي في سوريا. وهنا نلاحظ أنه يستثني العراق كي يبقى مجالا لتقاطع المصالح في طهران.
من اليمن إلى سوريا والعراق ولبنان سترتسم خيوط اللعبة الإقليمية بعد اتفاق فيينا، وعلى الأرجح سيكون الصراع مفتوحا وباهظ الكلفة. لكن لن تصبح إيران سيدة اللعبة ولن يكون العالم العربي مجرد مدى حيوي لمشروعها الامبراطوري.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr