مؤخرا، وتحديدا في التاسع من سبتمبر 2013، لملم الرئيس الباكستاني الحادي عشر “آصف علي زرداري” حاجاته الشخصية، وغادر قصر “إيوان الصدر” الرئاسي في إسلام آباد متجها إلى لاهور حيث ينوي الإقامة وإدارة “حزب الشعب” المعارض الذي ورثه من زوجته الراحلة/ رئيسة الحكومة الأسبق “بي نظير بوتو” من هناك.
وتــُمثل هذه الواقعة حدثا إستثنائيا في باكستان لأنها المرة الأولى في تاريخ البلاد التي يُكــْمل فيها زعيم باكستاني منتخب ديمقراطيا فترته الرئاسية ويسلـّم بعدها منصبه لخلفه بطريقة سلمية. ذلك أن كل الذين توالوا على حكم باكستان منذ إنفصالها عن الهند البريطانية في عام 1947 قد فقدوا مناصبهم قبل إتمام مددهم إما إغتيالا، أو إعداما، أو نفيا، أو إنقلابا، أو إعتقالا. ومن هنا فإن “زرداري”، الذي وصل إلى السلطة في ظروف دقيقة في عام 2008 على إثر الإنتخابات التي وضعت حدا للحكم العسكري للجنرال برويز مشرف، بل الذي ما كان ليصل إلى سدة الحكم لولا إغتيال زوجته في ديسمبر 2007، سوف يدخل التاريخ الباكستاني من هذه الزاوية فقط. فهذا هو إنجازه اليتيم خلال السنوات الخمس التي قضاها في السلطة!
أما دون ذلك فسوف تذكر كتب التاريخ للأجيال الباكستانية أشياء سلبية كثيرة عنه. فإذا ما تجاوزنا سيرته القديمة الملطخة بالتحايل على القانون والفساد، الذي أدخله السجن من عام 1996 وحتى 2004، والتكسب غير المشروع الذي جعل مواطنيه يصفونه برجل العشرة بالمائة (كناية عن مطالبته بنسبة 10% عن كل صفقة يمضيها أو يسهـّـل مرورها عندما كان وزيرا للإستثمار في الحكومة الثانية لزوجته ومسئولا عن الإستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالي الباكستاني في عهدها)، فإننا أمام رئيس شهد عهده ما لم تشهده عهود كل أسلافه من تراجعات على مختلف الأصعدة الإقتصادية والأمنية والإجتماعية مضافا إليها تراجع مكانة باكستان الدولية وعلاقاتها مع حلفائها التقليديين في الغرب وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة الأمريكية، بل وفي الشرق أيضا حيث رفضت الصين وبعض دول الخليج مده بالقروض والمساعدات المالية بسبب فساده.
ومن هنا قيل أن التركة التي خلفها “زرداري” لخليفته “ممنون حسين” تنوء عن حملها الجبال، خصوصا وأن رئيس باكستان الجديد، الذي أنتخب في نهاية يوليو الماضي من قبل لجنة تضم نوابا وأعضاء من البرلمان الفيدرالي، لئن كانت شخصية خلوقة، وصريحة، وبعيدة عن شبهات الفساد، فإنها من جهة ثانية شخصية باهتة، وغير حازمة، ولا تجيد فنون المبادرة والحسم، وليس لها تاريخ في القتال من أجل تحقيق مطالب شعبه. دعك من حقيقة أنه لاحول ولا قوة له في ظل وجود رئيس الحكومة القوي “نواز شريف” الذي إنتقاه من صفوفه حزبه (حزب الرابطة الإسلامية/ جناح نواز) ودفعه إلى الواجهة للتنافس على رئاسة البلاد (في مواجهة القاضي المتقاعد وجيه الدين أحمد مرشح حزب حركة الإنصاف بقيادة لاعب الكريكيت المشهور عمران خان الذي لم يحصل سوى على 77 صوتا مقابل 432 صوتا لمنافسه) كي يضمن لنفسه الحرية المطلقة في إدارة شئون البلاد دون صداع أو إعتراض من جانب رئاسة الجمهورية، بل كيل لا يسرق منه أحد الأضواء أيضا. والمعروف أن “ممنون حسين” البالغ من العمر 73 عاما شغل منصب مستشار حاكم إقليم السند “لياقت علي جتوئي” قبل أن يوليه نواز شريف في عام 1999 منصب حاكم هذا الإقليم. وحينما قام الجنرال “برويز مشرف” بإنقلابه الأبيض على “شريف” في ذلك العام إصطف “ممنون حسين” إلى جانب الأخير ولم يتخل عنه كما تخلى عنه آخرون كثر طمعا في المناصب أو إيثارا للسلامة، فكان ذلك تكرارا لمافعله الرجل في عام 1993 حينما تم إخراج شريف من السلطة على يد “بي نظير بوتو”، بل دليلا جديدا على وفائه المستواصل لقائده منذ إنخراطه في حزب الرابطة الإسلامية في عام 1970 .
والحال أنه عند الحديث عن “زرداري” و”حسين” نجد انفسنا أمام سيرتين متباينتين، وشخصيتين متناقضتين. فالأول صارم وحازم، لكنه مـُلــَوث ومراوغ، ولا يتردد لحظة واحدة في الإقدام على ما يحقق مصالحه الخاصة، ويلمّع صورته. والثاني على العكس تماما أي هاديء في طباعه، نزيه في تعاملاته، خائف على الدوام من الإقدام على شيء يخالف ضميره، طبقا لما يقوله الذين عرفوه.
من ناحية أخرى نجد أن الأول هو الولد الوحيد لعائلة “حكيم علي زرداري” البلوشية الاقطاعية التي سكنت السند حيث كانت عائلته تملك دار مشهورا للعرض السينمائي في كراتشي تحت إسم “بامبينو”. وبخلاف ما يدعيه من نجابة وذكاء منذ نعومة أطفاره، فإن مصادر مدرسة “سان باتريك” في كراتشي التي إلتحق بها ما بين 1973 و 1974 تقول أنه رسب في الإمتحانات النهائية ولم يحصل منها على شهادة. أما عن مزاعمه في عام 2008 من أنه حاصل على البكالوريوس في إدارة الأعمال من “كلية لندن للإقتصاد” الراقية، فهي الأخرى مزاعم دحضتها إدارة الكلية المذكورة، الأمر الذي يدل على إستمرائه للكذب والخداع. والحقيقة أن “زرداري” ما كان ليكون له شأن في عالم السياسة الباكستانية لولا زواجه من “بي نظير بوتو” سليلة أسرة بوتو الاقطاعية السندية المعروفة وإبنة أشهر رؤساء حكومات البلاد في عام 1987. ورغم أن هذه الزيجة لم تكن متكافئة، فإن “بي نظير” قبلت به، فقط من أجل إسكات الأصوات التي كانت تتحدث عن عنوستها في مجتمع محافظ لا يحترم العانسات. كما أن “زرداري ما كان ليكون له شأن في عالم المال والأعمال لولا إستغلاله لمناصبه الرسمية وإحتمائه بزوجته. وهذان الأمران لئن حولاه إلى ثاني أغنى أغنياء باكستان بثروة قدرتها المصادر الصحفية الباكستانية بـ 1.8 بليون دولار متجسدة في أصول نقدية ومجوهرات ثمينة في المصارف السويسرية، وأراض في مقاطعتي سوري البريطانية ونورماندي الفرنسية، وعقارات في دبي ونيويورك ولندن وكراتشي ولاهور وإسلام آباد، بينما كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في عام 1998 عن مصادر هذه الثروة قائلة أنها أتت من تزوير المستندات البنكية، والإنفاق بسخاء على شراء الذمم، وغسيل الأموال، فضلا عن العمولات ولاسيما عمولة المائتي مليون دولار التي قبضها “زرداري” عن صفقة الطائرات العسكرية الفرنسية التي أبرمتها حكومة زوجته مع باريس بقيمة أربعة بلايين دولار، والتي ألغيت بخروجها من الحكم.
أما ممنون حسين فليس في سيرته أي غموض. فهو إبن عائلة هندية كانت تسكن في مدينة أغرا، وتعمل في تجارة الأحذية قبل إضطرارها للنزوح في عام 1949 إلى كراتشي بسبب تقسيم شبه القارة الهندية. وفي كراتشي حصل حسين على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال من “معهد إدارة الأعمال”، ثم إلتحق بالعمل مع والده في صناعة النسيج التي إستمد منها نفوذا تجاريا قاده إلى رئاسة غرفة وتجارة وصناعة كراتشي في الستينات.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh