لم يكن للاتحاد السوفياتي في الماضي، ولروسيا الاتحادية الآن، من هم سوى اخذ سوريا والسوريين من كارثة الى أخرى. ليس التفاهم الاميركي ـ الروسي الأخير في شأن الهدنة سوى امتداد للخط الذي سارت عليه موسكو دائما. هذا التفاهم الذي تبيّن كم هو هشّ تريد روسيا تفسيره بما يتناسب مع ما تعتبره حماية لمصلحتها. ومصلحة روسيا في هذه المرحلة وضع قسم من الأراضي السورية تحت وصايتها ورضوخ اميركا لشروطها.
باختصار شديد، هناك طلب روسي بسيط من الإدارة الاميركية. فحوى هذا الطلب انّ سوريا ارض روسية وانّ بشار الأسد ليس سوى دمية تحركها موسكو وان المعارضة السورية كلّها مجموعة إرهابيين لا اكثر… وما على اميركا سوى القبول بهذا الواقع الذي يعني بين ما يعني قيام “سوريا المفيدة” التابعة لايران.
هذا هو المفهوم الروسي للتفاهم في شأن الهدنة. لذلك، عندما قصفت الطائرات الاميركية، عن طريق الخطأ، او غير الخطأ، قوات تابعة للنظام السوري في دير الزور، ردت موسكو بقصف لقافلة تنقل مساعدات الى المواطنين في حلب. قتلت مدنيين ومنعت دخول المساعدات الى المدينة المحاصرة.
من حقّ روسيا متابعة سياستها السورية التي تصبّ في تفتيت سوريا والانتهاء منها. هناك فرصة لا تعوّض اسمها إدارة باراك أوباما التي لم تعترض يوما بشكل جدّى على السياسة الروسية، خصوصا في سوريا. كانت نقطة التحوّل استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في سياق حربه على الشعب السوري صيف العام 2013.
بدل ان ينفذّ باراك أوباما وعيده بضرب القوات التابعة للنظام بغية معاقبتها على اللجوء الى السلاح الكيميائي، قبل الرئيس الاميركي كلّ ما عرضه عليه الرئيس فلاديمير بوتين. قبل كلّ شيء، نسي أوباما انّه كان رسم “خطا احمر” لبشار الأسد وانهّ اعتبر ان على رئيس النظام السوري الرحيل. ارتضى بضمانات بوتين الذي عرض التخلص من مخزون السلاح الكيميائي في سوريا بدل معاقبة الأسد الابن على اللجوء الى هذا السلاح لقمع السوريين. اكثر من ذلك، اقتنع بالكلام الجميل الصادر عن بوتين في مقال كتبه في صحيفة “نيويورك تايمز” عن التعاون من اجل إقرار السلام والاستقرار في العالم. صدّق ان الرئيس الروسي الذي لا يؤمن سوى بنظرية محو المدن، على غرار ما فعل في غروزني، يمتلك خريطة طريق واضحة على استعداد للسير فيها الى النهاية عندما لا يجد في واشنطن من هو على استعداد للوقوف في وجهه.
لماذا يأخذ بوتين باراك أوباما على محمل الجد هذه المرّة ولا يقنعه، عن طريق قصف قافلة الاغاثة ان لا مجال امامه سوى الاستسلام لروسيا في سوريا؟ صحيح ان هناك مراكز قوى أميركية، من بينها وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية والامنية، لا تقبل بان تكون الولايات المتحدة مجرد غطاء للسياسة الروسية في سوريا، لكنّ الصحيح أيضا ان إدارة أوباما لن تتهاون في كلّ ما من شأنه القبول بان تكون روسيا صاحبة القرار في سوريا. فهذه الادارة تضمّ مستشارين نافذين من الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس متعاطفين مع ايران مثل فاليري جاريت او منحازين للنظام السوري مثل روبرت مالي. هذه الإدارة يهمّها قبل كلّ شيء حماية الاتفاق في شأن الملف النووي مع ايران، كما يصعب عليها ادراك انّ النظام السوري و”داعش” وجهان لعملة واحدة وان لا خلاص من “داعش” من دون القضاء على النظام السوري.
عندما يجد فلاديمير بوتين امامه إدارة من هذا النوع ادارت ظهرها لكلّ ما له علاقة بحقوق الانسان وحقّ تقرير المصير للشعوب، ليس ما يمنعه من متابعة سياسته السورية. انّها سياسة قديمة جدا تقوم على ضرب القوى الحيّة في سوريا ومجتمعها الغنيّ بتنوعّه وعلى نشر البؤس والفقر في البلد وتشجيع كلّ نظام قمعي فيه.
لا حاجة الى العودة بعيدا الى خلف. يكفي كيف دعم الاتحاد السوفياتي نظام البعث الذي اخذ سوريا ومعها مصر الى حرب 1967 للتأكد من ان موسكو كانت في كلّ وقت مع سوريا الضعيفة والمهزومة التي تستخدم الإرهاب والابتزاز لتأكيد وجودها في المنطقة. نجح الإرهاب والابتزاز حتّى مع روسيا نفسها وقبل ذلك مع الاتحاد السوفياتي. الم يدخل حافظ الأسد عسكريا الى لبنان بضوء اخضر أميركي واسرائيلي عندما كان رئيس الوزراء الكسي كوسيغين في زيارة لدمشق؟ هل قبل الاتحاد السوفياتي بمثل هذه الخطوة لمجرّد انّها ذات طابع تخريبي كانت بين أولى نتائجها اغتيال النظام السوري لكمال جنبلاط الزعيم الدرزي اللبناني “حامل وسام لينين”؟
لم تعترض موسكو يوما على الممارسات السورية في لبنان. لم تعترض قبل ذلك على ارتكابات المسلّحين الفلسطينيين في لبنان. لم تقم يوما باي عمل ذي طابع إيجابي في مجال خدمة الشعب السوري وتخليصه من الظلم اللاحق به منذ تحول النظام في البلد الى نظام تتحكم به الاجهزة الأمنية في العام 1958 ومنذ انتقاله الى حكم البعث في 1963 تمهيدا لسيطرة الضباط العلويين على مقدرات البلد في الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير 1966.
كان الكرملين مع الظالم ضد المظلوم في سوريا، اكان ذلك في عهد الاتحاد السوفياتي او في عهد روسيا الاتحادية. لم يتغيّر شيء في موسكو على الرغم من مرور السنين. الجديد الآن ان هناك إدارة أميركية مستعدة للذهاب الى ابعد حدود في مسايرة الكرملين الذي ينسق مع إسرائيل في شأن كل شاردة وواردة. هل تنبع قوّة فلاديمير بوتين من هذا التنسيق؟ الجواب نعم، بل الف نعم. ففي الماضي القريب جرّب باراك أوباما الدخول في مواجهة مع بنيامين نتانياهو. اكتشف انّه عاجز عن ذلك. عليه الآن الدخول في مواجهة الحلف الروسي ـ الإسرائيلي في وقت تشارف ولايته الثانية والاخيرة على نهايتها. من لم يستطع مواجهة نتانياهو لن يتمكن من دون شكّ مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الروسي معا. هذا لا يمنع من التساؤل مرّة أخرى لماذا هذا الإصرار الدائم في موسكو على الانحياز الى كلّ من يريد الشرّ لسوريا وشعبها. قد يكون الجواب الوحيد على ذلك ان ليس في استطاعة روسيا الّا التدمير. من يريد مثلا حيّا على ذلك، يستطيع الاستعانة بتجربة الاتحاد السوفياتي في اليمن الجنوبي. ما الذي فعله الاتحاد السوفياتي في هذا البلد الذي استقل في العام 1967؟ هل بقي شيء من مدينة عدن التي كان يمكن ان تكون احدى اهمّ المدن في شبه الجزيرة العربية قبل ان يقضي عليها الوجود السوفياتي في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته تمهيدا للسقوط في مستنقع التطرف الديني في 1994، وهو تطرف لم تخرج منه حتّى الآن.
ماذا تريد موسكو تحقيقه في سوريا؟ هل من عاقل يستطيع ان يبني على نظام بشّار الأسد. يمكن الاستعانة بما بقي من النظام لاستكمال عملية تدمير سوريا لا اكثر. لا يبدو ان هناك هدفا آخر للكرملين في هذا البلد…