ليس من قبيل المبالغة القول بأن ثمة إحساسا عاما شائعا بأن مؤتمرات القمم العربية لم تعد بذات قيمة وليس لها أي تأثير أو مردود إيجابي في معالجة الأزمات المتفاقمة التي تعصف بمجتمعاتنا، الأمر الذي يفسر عدم مبالاة الناس وعزوفهم عن الاهتمام بمؤتمر القمة القادم المزمع عقده أواخر الشهر الجاري في الرياض.
فالكثيرون يعتبرونه أشبه بتقليد سنوي روتيني أو حدثا صوريا لا يستحق التوقف عنده، وأنه لن يحمل أي جديد، اللهم إلا الإحاطة بما جرى من أحداث خلال الزمن الفاصل بين قمتين.
فضلاً عن إعادة التذكير في قرارات القمم السابقة، والتأكيد على ضرورة تفعيلها، إلى جانب الاكتفاء بما يتعين إدراجه من عبارات الإدانة والشجب في مواجهة تطورات أضرت ببعض المصالح العربية أو تدبيج كلمات الاستحسان والإشادة بجهود أثمرت جزئياً وساعدت على تخفيف بعض الأعراض والمشكلات.
والمعروف أن ألف باء أي مؤتمر قمة هو تكرار الدعوة لتفعيل المبادرة العربية الشهيرة التي أقرتها قمة بيروت عام 2002 لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي بمقايضة التطبيع الشامل مع دولة إسرائيل لقاء استعادة كامل الأراضي العربية التي احتلت في حرب يونيو/حزيران عام 1967.
واستكمالاً ليس بغريب أن تنحو القمة إلى تشكيل لجنة عربية خاصة لهذا الغرض من أجل التلاقي مع الإعلانات الأخيرة للإدارة الأميركية حول ضرورة بذل جهد متميز لحل هذا النزاع تجلى بسعي وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس لعقد أكثر من لقاء قمة بين الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
ومع أن مثل هذه اللجنة جرى تشكيلها في غير قمة، واكتفت بجولة في عواصم الدول الكبرى أو لم تباشر عملها في الأصل لأسباب متنوعة منها تفاقم الخلافات بين أعضائها أو وقوع أحداث أكثر أهمية اعترضتها واستدعت موقفاً وجهداً مختلفين، فإن القادة العرب يعرفون أن حدود دورهم على هذا الصعيد هو التبشير برغبتهم الصادقة في السلام على أمل جذب الدعم العالمي وتشجيع إسرائيل على تقديم تنازلات!
وحيث إن موقف الأنظمة العربية فيما يخص الأزمة العراقية لا يزال متبايناً بين نظام وآخر، أو غير محدد بوضوح لدى أنظمة أخرى، فمن الثابت أن تكرر القمة الدعوة إلى تطوير الدور العربي وتعزيزه في اللحظات الصعبة والعصيبة التي يعيشها العراق اليوم تجنبا لأن يؤدي تطور عمليات القتل والثأر إلى حرب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر.
ثم رداً على تطور الخلاف الغربي الإيراني حول الملف النووي وإحالة المسألة إلى مجلس الأمن، من الطبيعي أن يكتفي القادة العرب بتكرار موقفهم الداعي إلى منطقة خالية من السلاح النووي، دون تناسي مطالبتهم الدورية باستعادة الجزر العربية الثلاث التي تحتلها إيران.
أما في حقل الشجب والإدانات فمن البديهي خروج المؤتمر باستنكار جنون الإرهاب وعمليات القتل والتفجير، وبخاصة تلك التي تجري في العراق أو التي دهمت غير بلد عربي، دون أن يبخل بما يمكن أن يقدمه لتخليص صورتنا العربية من مظاهر العنف والقسوة التي تسمها هذه الأيام.
وسيأتي جنباً إلى جنب مع توجيه أشد عبارات الإدانة والاستنكار للحرب الصهيونية على لبنان والنتائج التي خلفتها من قتل وتدمير، والتشديد تالياً على دعوة العالم أجمع للوقوف أمام مسؤولياته لوضع حد للعنجهية الصهيونية الآثمة في فلسطين خاصة ما يتعلق بتعدياتها المتكررة على حرمة المسجد الأقصى!!
وما دامت بعض القمم العربية تأخذ أهمية إضافية بالتفارق عن قمم أخرى تبعاً لوزن الطرف المضيف ودوره وقدرته، فمن الواضح أن يشكل المؤتمر الذي يعقد في العاصمة الرياض سنداً عربياً لسياسات الحكومة السعودية ودعماً لرؤيتها في معالجة بعض أزمات المنطقة.
فالدخول السعودي إلى الأزمتين اللبنانية والفلسطينية سيحظى بأهمية خاصة في هذا المؤتمر، ولن يبخل القادة والزعماء العرب بتدبيج كلمات الاستحسان والإشادة بجهود المملكة في معالجة استفحال الصراع الفلسطيني ومساهمتها في نجاح اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس بما في ذلك تأييد حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية العتيدة.
وأيضاً دورها في تهدئة الأوضاع المتفاقمة في لبنان، وتشجيعها لأسلوب الحوار والتوافق بين الفرقاء اللبنانيين، جنباً إلى جنب مع مباركة خطواتها نحو الانفتاح على القيادة الإيرانية وتخفيف ما صار يعرف بحالة الاحتقان السني الشيعي.
وجلي وواضح أن التحدي الأكبر اليوم أمام القمة يتمثل في حماية السلم الأهلي ضد احتمال اندلاع وتطور حروب داخلية في عدد من البلدان العربية، في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال.
لكن يرجح رغم حدة هذه المخاطر المحدقة أن يكتفي القادة العرب بمعالجة هذه القضايا الملتهبة معالجة لغوية وفي حيز الدعاية فقط، وربما بتدبيج قرارات ومناشدات لن تسمن أو تغني من جوع طالما لن ترفق بخطط وآليات مناسبة وبقوى قادرة على وضعها موضع التطبيق.
مثلما يرجح وكما جرت العادة في حال تطور الخلافات بين بعض الزعماء العرب أن يلجأ المؤتمرون، وتفادياً لأية توترات وشروخ قد تفشل القمة، إلى المهادنة والمساكنة والاكتفاء بعبارات عامة ومجردة يستطيع كل طرف تفسيرها على هواه وكيفما يشاء!!
أما تجاه الإصلاح السياسي فاللافت ألا تحظى هذه المسألة بالاهتمام المرجو، والمتوقع أن يكتفي القادة والزعماء العرب برفع شعارات عامة عن الحاجة للإصلاح والتطوير والتحديث لكن ليس كمجهود جماعي أو كقرارات ملزمة، بل ترك زمام المبادرة عملياً بيد كل نظام حاكم كي يقرر بنفسه حدود الخطوات الإصلاحية التي يجدها تنسجم مع خصوصية مشاكله وأزماته.
هذا إذا لم يشهد المؤتمر هجوماً معاكساً على الدعوات الإصلاحية على قاعدة استثمار التخوف الغربي، وإلى أبعد مدى، من احتمال وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة في حال تحررت العملية الانتخابية من ضوابطها السلطوية كما حصل في عدد من البلدان، وتوظيف هذا التخوف للطعن في مصداقية الدعوات الغربية لإشاعة الديمقراطية.
الأمر الذي يساعد على تحرير غالبية الأنظمة العربية من تبعات قرارات قمة تونس عام 2004، التي تبنت جهاراً ونهاراً الإصلاح السياسي كخيار رئيس، ودعت السلطات لمنحه مزيداً من الجهد والاهتمام.
يمكن القول إن النظام العربي الرسمي وصل ومنذ زمن غير قصير إلى حالة من الجمود والتردي لا سابقة لها، وإن انعقاد أي قمة عربية لن يقدم جديداً في تعديل الدور العربي وتمكينه من مواجهة التحديات والمشاكل التي تعترضه.
لكن تبقى هناك مقاصد متنوعة خلف إصرار القادة والزعماء العرب على تثبيت هذه الصورة من اللقاء الجماعي، ربما كرغبة معنوية للظهور موحدين أمام شعوبهم ولإشعار العالم بأنهم جماعة واحدة وأن ثمة قشرة لا تزال تظللهم رغم حال التفكك والبؤس التي وصلوا إليها.
أو ربما كي يستثمر كل زعيم عربي هذا المنبر ليدافع أساساً عن سياساته ومواقفه، ما دام الكل يعرف أن أية خطابات سوف تقال أو أية قرارات سوف تتخذ هي أشبه بحبر على ورق، لأنها غير ملزمة ولا تملك القوى والآليات القادرة على وضعها موضع التنفيذ!
هذا ناهيكم عن توظيف بعض الحكام العرب هذا التجمع كمدخل لاستجرار المعونات والمساعدات المالية من الدول العربية الثرية أو أن يكون سنداً أو ملاذاً لبعضهم في أوقات الشدة بالذات عندما تكون هناك أزمة بينه وبين طرف دولي.
والحقيقة التي يعرفها القاصي قبل الداني أن أغلب قرارات القمم العربية حتى التي تم إقرارها بالإجماع لم تشهد طريقها إلى الواقع والتطبيق. ويعود الأمر إلى أسباب مختلفة، منها أولاً تباين المصالح والدوافع والمواقف بين الحكام العرب إلى درجة يصعب معها توحيد جهودهم في سياق مشترك. ولا يخفى على أحد أن أهم الشروط الأساسية للتعاضد والتكامل هو الشعور بوجود منافع متبادلة وهو أمر لا يفكر فيه معظم القادة العرب ولا يسعون نحوه.
ومنها ثانياً تفاوت القدرات والموارد وسياقات التنمية ربطاً باختلاف أشكال النظم السياسية وابتعادها جميعها وإن بدرجات مختلفة عن الديمقراطية، مما يعني غلبة جماعات فئوية مسيطرة لا يعنيها العمل الجماعي والمؤسسي أو البعد العربي بقدر ما تعنيها حسابات الهيمنة ومصالحها القطرية الضيقة.
ومنها ثالثاً تنامي مشاعر عدم الثقة والريبة المتبادلة حول الأهداف المعلنة والنوايا المضمرة بين القادة العرب، وحذرها جميعها من الالتزام ببرامج وآليات تسعى لوقف التدهور في العلاقات العربية ولبناء عتبة انطلاق جديدة إلى الأمام.
ومنها رابعاً غياب دور الشارع العربي وقواه الحية، فلا حساب يحسب لمصالح الناس ومواقفهم وقد نجحت غالبية الأنظمة العربية في إنهاك مجتمعاتها قمعاً وفقراً، وأوصلتها إلى درجة لا تحسد عليها من اللامبالاة والسلبية.
ولعلها واحدة من المفارقات المؤلمة أن تنجح، وفي زمن قصير نسبياً جماعات إقليمية في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في رص صفوفها وتحسين شروطها في مواجهة العولمة والسير نحو التكامل السياسي والتعاون الاقتصادي والتجاري وهي لا تملك قدراً من الشروط والعناصر المشتركة التي تحوزها البلدان العربية، مثل اللغة والتاريخ والثقافة والمعاناة والهموم المشتركة.
بينما لا تزال العلاقات العربية رغم عمرها الطويل تشهد المزيد من التنابذ والتباعد، وهو مسار لن يشهد تعديلاً ما لم تكتشف جميع الدول العربية كبيرها وصغيرها مدى حاجتها لبعضها، وتؤمن بأن تعاونها وتكاملها هو الطريق الأسلم لتحسين فرصها وحظوظها أمام العالم ولضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة!!
ثم إنه من المتعذر أن نحلم بقمة عربية تكون قمة ناجحة فعلاً وتنأى مرة واحدة عن الشعارات الفضفاضة والعبارات العامة وتضع برنامج عمل وخططا ذات طابع مؤسسي وتراكمي من أجل تحقيق الأهداف العربية المشتركة، دون الالتفات إلى الإصلاح السياسي الديمقراطي في كل بلد على حدة.
فالإصلاح السياسي وتمكين جميع المواطنين من المشاركة في اختيار قادتهم وفي التعبير عن تطلعاتهم وإدارة شؤونهم العامة هو مدخل الإصلاح المؤسسي على المستوى العربي، فكيف نأمل ممن لا يقبل بأساليب عمل مؤسسية وديمقراطية على المستوى الداخلي أن يقبلها ويحترمها على المستوى العربي؟!
ولعلها الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن أحد أن ما وصل إليه النظام العربي والمتمثل في القمة كأعلى هيئة تراتبية هو انعكاس طبيعي لماهية الأنظمة المشاركة وما وصلت إليه، مما يعني أن الاجتماع العربي لن يكون صحياً ومعافى إلا في حال تعافت كل ذات مشاركة فيه وغدت بدورها مجتمعاً صحياً!!.
وحتى ذلك الوقت من المؤسف القول إن الأوضاع العربية ربما تكون مرشحة لمزيد من التدهور وخاصة في البؤر الساخنة، وسوف يشتد الهزال والتفكك في الجسد العربي فاسحاً المجال أمام القوى الخارجية الطامعة لتنهشه وتمتص ما تبقى من طاقته.
مثلما سوف يفضي اضمحلال الدور العربي واستمرار انحساره إلى مزيد من تقدم العامل الأممي ومبادراته في التأثير بمسارات المنطقة وصراعاتها، ويصبح حضوره أكثر فاعلية وأكثر أهمية ومصداقية.
خاصة عندما يترك سمعة طيبة وبعض الجدوى، كما هو الحال تجاه لبنان أو في معالجة مأساة دارفور مثلاً. وحتى ذلك الوقت ستبقى أهم سمة تميز القمم العربية بين عام وآخر هي أن جديدها أسوأ من قديمها وحاضرها أسوأ من ماضيها، ربما إلى أن تصل إلى لحظة يغدو فيها مجرد عقد مؤتمر للقمة العربية حتى ولو بقي روتيناً وشكلياً، هو أمر بعيد المنال!!
akrambunni@hotmail.com
* كاتب سوري
(الجزيرة نت ـ وجهات نظر)