ظل السيد قارقوش محتفظاً بلقب أحمق حاكم عرفته الدنيا.. ولكن ليس بعد الآن.. فقد إختطف منه حفيده مُعَمروش الأضواء ليحوز وبكل خزي هذا اللقب المُخزي بحماقاته التي بَدت معها حماقات سلفه قارقوش شيئاً لا يذكر.
لم يُتح لقارقوش وسائل إنتشارعالمية كالتي أُتيحت لخلفه مُعَمروش. فظل شخصيه محليه لاتعرفها إلا هذه المنطقة الناطقة بالعربيه فقط، ومن خلال ما ترويه كتب التاريخ والثرات عنه والتي إختلفت في رواياتها إلى الحدّ الذي جعل بعضها يعتقد بإسطورية شخصية قارقوش، وبأنها شخصيه مُبتكرة لا وجود لها في الواقع. وهذا التشكيك في الوجود الفعلي للشخصيه القارقوشيه، مصدره ما رويّ عنها من غرابة الأطوار، ومن الأحكام المُغرقة في الحُمق والسفه، مما جعل القول بإسطورية هذه الشخصية هو قول أقرب إلى الصواب.. ولكن ليس بعد الآن.. وليس بعد أن ظهر حفيد قارقوش ليثبت للعالم أن جده لم يكن إسطورة، وأن عجائب دنيا العرب وغرائبها، قد تجعل الحمقى والمأفونين حكاماً وسلاطين وملوكاً على رقاب العباد.
ظَهر الحفيد مُعَمروش، وأُتيحيت له من وسائل الإنتشار بفضل التقنيه الحديثه ما جعله يحوز من الأمجاد ما عجز عنه جده قارقوش، فنال بفضل هذا الإنتشار العالمي الشهادات له بالحُمق والسفه والبله من كل أرجاء الدُنيا، ومن كُل أجناس البشر، وبكل اللغات. وإستطاع أيضاً بفضل تقنية الإتصالات أن ينشر ما جادت به قريحته، من سفه وحمق وبكل اللغات أيضاً. فجمع كتاباته وقوانينه ونظرياته المُعَمروشيه وجعلها في كتاب أسماه الكتاب الأخضر، وأقام له مراكز لتفسيره وشرحه وإعداد الدراسات حوله، وهو ما لم يُتح لسلفه قارقوش والذي ظل الكتاب الوحيد الذي جُمعت فيه أحكامه الغريبه وقوانينه المُضحكة، والذي سمي بالفاشوش في أحكام قارقوش، ظل هذا الكتاب مجهولاً، ولم ينل ما ناله كتاب حفيه الأخضر من إنتشار في الدنيا بأسرها.
كتاب الفاشوش في أحكام مُعَمروش أو ما أسماه معمروش بالكتاب الأخضر، لم يكن كتاباً يخص ليبيا فحسب، بل إن مُعََمروش وجهه إلى الدنيا كلها وقال بأنه قد وضع فيه نظرية عالمية ثالثة ستغير وجه الدنيا ، فمُعَمروش لم يكن يرى نفسه حاكماً محلياً لليبيا فحسب، بل كان يرى نفسه زعيماً عالمياً ومفكراً ومُلهِماً ومُلهَماً أرسلته العناية الإلهيه لإنقاذ العالم.
بدأ مُعَمروش بتطبيق نظريته على البلاد المنكوبة به وهي ليبيا، لتكون نموذجاً يحتذي به العالم من حولها. فبدأ ببناء مقرات أسماها “المثابات الثورية”، جمع فيها كل أصحاب الإعاقات العقليه والنفسيه، واللقطاء، والمنبوذين من المجتمع، وأصحاب السوابق، وأعطاهم إسم “اللجان الثورية”، وقال لهم أنتم رسل الحضارة الجديدة، وأمرهم ببدء تطبيق مقولات كتابه الفاشوشي وبسحق كل من تسول له نفسه الإعتراض.
كانت التعاليم المُعَمروشيه تقوم على شرعنة النهب والسلب. فبحسب نظريته الفريدة كل ما يقع تحت يدك فهو لك، فتحول الناس إلى لصوص وقطاع طرق، يغتصب أحدهم بيت الآخر، وأرضه، ومَركُوبه، ويستولي على أرزاقه، بشرعية أحكام الفاشوش المعمروشيه، ومن يعترض يكون في خانة أعداء معمروش رسول العناية الإلهيه، ويكون جزاؤه الشنق في الميادين العامة، وهدم بيته، وتشريد أسرته. سقطت كل حقوق الملكيات العامة والخاصة وتحولت البلاد إلى مرتع للصوص، وتهاوت كل القيم التي كان يقوم عليها المجتمع. فعم الخراب البلاد والعباد، وعندها خرج معمروش وتأمل الخراب من حوله وقال لأتباعه: إن هذا المكان هو الفردوس الأرضي الذي ينعم الإنسان بالعيش فيه.
لن نستطيع في هذه العجالة الإحاطة بكل جوانب النظريه المُعَمروشيه وتطبيقاتها، وما جرته تلك التطبيقات على ليبيا من دمار وخراب، فهذا يحتاج إلى مجلدات عديدة لتُحصيها عددا. ولكننا أردنا هنا فقط أن نُقدم فكرة عامة عن الشخصيه المُعَمروشيه وحماقاتها ،التي لم تكن فقط في تأليف النظريات، وسن الأحكام والقوانين المضحكة. فمُعَمروش هذا لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا وكان له فيه قول وفعل، فهو كما يصفه أتباعه القائد، والمفكر، والمُلهَم، وهو أيضاً الأول في كل شيء فهو المهندس الاول، والطبيب الاول، والمحامي الاول، والرياضي الأول، والرقاص الاول، وهو لا ينطق عن الهوى فكل قول يتفوه به يكون منهاج عمل للأمة لتسير عليه.
مُعَمروش أيضاً قدم نفسه للعالم ككاتب وروائي وشاعر أيضاً، فألف الروايات التي أستأجر لها بائعي ضمائرهم، من كبار كتاب بلاده والبلاد المجاورة، ليعقدوا حولها المؤتمرات الثقافيه، وليتدارسوا عظمة وروعة الإبداع فيه وليكتبوا حولها دراساتهم النقديه التي صورت خرابيشيه الطُفوليه على أنها من روائع الأدب العالمي.
مُعَمروش أيضاً لمن لا يعلم عالم لُغة لا يُشق له غُبار ولا يكبو به حِمار، رغم أنه لا يجيد الحديث بلغته الأم، ولا يعرف مخارج حروفها، ورغم عجز كل اساتذة اللغة المُحيطين به عن تقويم لسانه. لكنه رغم ذلك يعد رغم أنف الجميع من جهابدة علماء اللغة، و لقد كان له الفضل الكبير في إرجاع العديد من الكلمات العربيه التي تم سرقتها من الأمم الأخرى ووضعتها في لغتها، وهاك بعض الأمثله على فتوحاته الربانية. ففي مجال السياسة إستطاع أن يُعيد للغة العرب كلمة.. ديمقراطية.. التي سرقها منا الإغريق الخُبثاء. فقام مُعَمروش بتأصيلها وفضح سرقتهم وأرجعها إلى أصلها العربي المجيد سالمة غانمة لتصبح مفردة ديمقراطية = ديما في الكراسي. وأيضاً في مجال الطب أعاد الينا كلمة إنفلونزا المسروقة، فصارت بتحليله أنفلونزا = أنف العنزة ، وأيضاً في عالم الجريمة فحلل لنا كلمة مافيا، فصارت مافيا = معفيه اي معفاة من العقاب كما شرح، وصارت الفاشيه ميراثا عربيا بفضله، فصارت الفاشيه= الفاسيه، نسبة إلى الفأس كما فسر لنا، وغير ذلك كثير وأكثر من أن يتسع له المقام هنا. حتى أن مُعَمروش وضع أحد مريديه على رأس مَجمع اللغة العربيه ليُشرف على هذا العمل الموسوعي بإعادة حقوق العرب الأدبيه المُغتصبة. وقام خادمه هذا ويدعى “علي فهمي خشيم” بتأليف كتاب حوى أربعة وعشرون ألف كلمة كانت مسروقة من لغتنا المجيدة ومنذ فجر التاريخ وأعادها إلى حظيرتها العربيه. لقد خدم مُعَمروش اللغة العربيه واسترجع لها حقوقها المُغتصبة، على الرغم أنه يُغادرنا الآن وهو لا يزال لاينطق بها بصورة صحيحة. ومن طرائف مُعَمروش في هذا المجال انه في أحد مؤتمرات القمة التي جمعت الملوك والرؤساء، كان له عداء مع أحد هؤلاء الملوك لانه أهانه في موضع سابق وأنتهز الفرصة ليثأر لنفسه منه، فقال عدة جمل مُهينة لذلك الملك وغادر المكان ولكن احداً من الحضور لم يفهم ما قال. فظنوا أنه يقول كلاما يبغي به المُصالحة، وصفق كل الحكام والملوك بما فيهم الملك الذي تم إهانته، حتى جاءتهم الترجمة لكلامه ووقعوا في حيص بيص.
لم أُرد من هذه المقالة إحصاء حماقات معمروش، لان المجال لا يتسع لذلك. وما هذه المقالة إلا لاعطاء نُبذة عن كتاب كنت قد بدأت بكتابته منذ فترة طويلة، وحاولت فيه إحصاء ما تبقى في الذاكرة من سفاهات وحماقات وتنطعات معمروش في كل مناحي حياتنا. ولكنني كلما أردت أن ابدأ بنشر حلقات منه، لا يتأتى لي ذلك لظرف ما، ولعل عناية السماء لم ترد له أن يظهر حتى نستكمل الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل المعمروشي الطويل والمُمل، والتي يتابعها الآن وعلى الهواء العالم بأجمعه.
فمُعَمروش الآن محاصر في قلعته الحصينه، محاط بعائلته التي حكم عليها بالموت معه، لانه لا يقبل بأن يعيش أحد بعده. مُعَمروش الآن في صف، والدنيا كلها في صف آخر، ولا يزال مُعَمروش رغم هذا يرى بأن الدنيا كلها على خطأ وبأنه هو على صواب.
مُعَمروش المُحاصر والمُنهك بالأمراض وخيبات الأمل بعد أن صدمته الحقيقة، وتعرف على رأي شعبه والعالم كله فيه. لقد كان حتى قبل أسبوع مضى هو القائد المُفكر المُلهِم ، ملك ملوك وسلطان سلاطين الإنس والجنّ الإفارقة،إمام القيادة الإسلاميه وموحد أفريقيا ، وحكيم العالم، لكن حتى “برلسكوني” الخبيث الذي منحه لقب حكيم العالم تخلى عنه.
مُعَمروش الآن يعيش في كابوس حقيقي، لقد عاش إلى اليوم الذي رأى فيه أن عالمه الهُلامي الذي صنعه له مجموعة الحُقراء المُحيطين به، لم يكن موجوداً إلا في عقله المريض، وبأن الدنيا لم تعرفه إلا كأحمق وأبله ومسخرة، وبأن كل الذين كانوا يمنحونه الألقاب ويصفقون له ،إنما كانوا يفعلون ذلك للضحك عليه وسرقة نقوده التي سرقها من شعبه.
لم تكن الأقدار رحيمة أبداً بمعمروش، فلم تمنحه موتا مُبكراً ليموت وهو يظن بنفسه أنه قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وبأنه قد نال الخُلود. ولم يكن مُعَمروش يحلم بشيء مثل حلمه بالخُلود، ولقد أعد لذلك العُدة، حتى أنه عندما ألف كتابه الفاشوشي الأخضر، قام بكتابة مقولاته على سبائك ذهبيه، وأمر أتباعه برميها من الطائرات، في مجاهل الصحراء، وفي أعماق المحيطات، ولعله كان يخشى أن يحدث طوفان نوحي جديد فيندثر كل شيء على وجه الأرض، لكن مقولات كتابه لن تندثر وسيجدها الخلق الجديد الذي سينجو مع نوح الجديد في السفينه، وسيعلمون أن معمروش قد مرَّ من هنا. لقد أعدّ معمروش كل العدة، وتسلح لينال الخُلود، لكن ما لم يعد له نفسه، وما لم يتوقعه، هو خروج فتية من رجال ليبيا وأبطالها وهبوا أنفسهم لله وللوطن، ليجروه من عنقه خارج دوامة أحلامه وأوهامه، وليصلبوه عارياً حتى من ورقة التوت أمام العالم بأسره.
لقد وعدت في مقالة سابقة بأننا سنخلد مُعَمروش هذا في التاريخ. ولعلمي بأن ساعاته قصيرة وموعد رحليه المُفرح قد أزف، أردت أن أُطلعه على نبذة من هذا الكتاب، والذي أرجو أن يُسهم في تخليده في الدنيا، خُلود يُشبه خُلود جده قارقوش،أردت أن يعلم قبل رحليه الأسم الذي ستعرفه به الأجيال القادمة، وهي تقرأ عنه وعن سفهه وحمقاته وتتنذر بها.
لقد ختم مُعَمروش حياته بسفك الدماء وتدمير البلاد التي آوته ومنحته من خيراتها، مما جعل الدنيا بأسرها تقف صفاً واحداً ضده، ومما جعله يقف وحيداً في مواجهة العالم بأسره. وكان ختام حماقاته أن يخرج في آخر شطحات النزع الأخير ويقول للدنيا: من لا يحبني لا يستحق الحياة، وبذلك فأن الدنيا بأسرها بحسب عقل مُعَمروش المُختل لا تستحق الحياة، ولو كان قادراً على إفنائها لفعل، لكنه غير قادر على فعل شيء. لقد تخلى عنه حتى السفهاء الذين زينوا له منكراته، وهو الآن عاجز ،ومحاصر، ومريض، وقعيد حصنه المُحاط برجال أشداء يتحينون الفرصة لدق عنقه، وليرسلوه إلى مزابل التاريخ، حيث بقايا كل المأفونين والحمقى والمتألهين في الأرض، ولن يبقى منه في ذاكرة الدنيا شيء، لن يتبقى منه إلا طرائف ونوادر يتسلى بها الناس. لن يتبقى له من الخُلود الذي حلم به غير مفردة جديدة تدخل قواميس لغتنا تكون مرادفة لكل الكلمات الدالة على شدة الحُمق والجنون والسفه والبلاهة هي مفردة مُعَمروش.
alkhaliiifiiiy@gmail.com
* كاتب ليبي
ليبيا من قارقوش إلى مُعَمروش
كل ديكتاتور اشتراكي هو نسخة طبق الاصل عن معمروش