ارتفع سعر الدولار فى ليبيا إلى أرقام خيالية، وحيث أنه يوجد له الا مصدر واحد هو البنك المركزي فإن من يتحكم فى سعره هو محافظ البنك المركزي والقائمون على ادارة البنك من بعده. وإذا كانوا يدركون أن سعر الدولار فى السوق الموازية يقارب ثلاثة دينارات فلن يكونوا أغبياء ليبيعوه بسعر 1.4 وهم يدركون أن الفرق الكبير سيدخل جيوب الاخرين. لذلك من البديهي أن يكون لهم نصيب، و”من حضر القسمة فليقتسم”!
والطريق للحصول على العملة الصعبة من البنك المركزي لا بد أن يمر بالبنوك التجارية، وهم ليسوا ملائكة ولا طيبي النية ليتركوا العميل ينعم بالهبرة وحده، بل رجال عمليون يؤمنون بمبدأ المشاركة فى الربح و”يا بخت من نفع واستنفع”.
كما أن السبيل الرسمي للحصول على الأوراق الخضراء الدولارية أو اليورو الوردية هو فتح اعتماد مستندي بحجّة استيراد بضاعة تبدو ظاهريا بضاعة ضرورية كالمواد الغذائية أو معدات المصانع. وهنا تقحم ادارة المصرف، وهو غالبا مملوك للخواص، نفسها فى الامر وترفع عمولة فتح الاعتماد إلى عشرة بالمئة- ولم تكن تزيد من قبل عن نصف فى الالف. ومن يحظى بفتح الاعتماد لا يقوم بتوريد بضاعة بل يقدم مستندات مزورة ليحصل على “الكاش” الذى يبيعه فى السوق يداً بيد بدلا من شراء بضاعة وما يتبعها من مشاكل البيع وتحصيل الثمن وغير ذلك. لماذا التعب والمخاطرة حين نكون المتاجرة بالعملة ايسر وأسرع.
هكذا ترتفع الاسعار ويزيد العبء على المواطن. لكن كيف يحصل المواطن على الدينارات الثلاثة اللازمة؟
من أين له هذه المبالغ والدينارات اساسا صادرة من المصرف المركزي وهو المخول الوحيد بطبع النقود الورقية، وإن كان يفترض أنه لا يطبع نقودا بناء على الفراغ وبدون وجود رصيد كاف لتغطيتها. بل إن القانون يلزمه بأن يكون للعملة غطاء يتم على اساسه تقدير قيمتها موزع بين سلات من العملة الصعبة وسندات دولية نسبة المخاطرة فيها صفر أي أن الدينار الذى بين يدى المواطن له قيمته المقابلة بالعملات الاجنبية
هنا نطرح السؤال من جديد إذا كان الدينار الذي أملكه له مقابل بالعملة الاجنبية فلماذا لا أحصل على هذه العملة حين تقديمه، والجواب “لا توجد عملة”.
وإذا توافر لدى المواطن دخل مادي يتيح له شراء الدولار بثلاثة دينارات، فمن أين اتت هذه السيولة النقدية، أى من أين أتت الدولارات ومن اين أتت الدينارات؟
فى الاحوال المعتادة، تقدم الحكومة للمصرف المركزي حصيلة بيع النفط بالدولارات وتطلب فى مقابلة عملة ليبية. فإذا عادت الدينارات الليبية للبنك المركزي يقوم حينها بسداد دولارات مكانها تستخدم لشراء السلع والخدمات. لكن الدولة الليبية لا تملك الان دولارات، فمن أين تحصل على الدينارات التي تدفع بها المرتبات وفروق أسعار البضائع المدعومة ومصاريف السلاح؟
تتوفر الدينارات الزائدة تحت مسمي التمويل عن طريق العجز، أي ببساطة طبع وطرح نقود جديدة بدون غطاء، تماما كإصدار شيك بدون رصيد. والشيك والنقود فى القانون شيء واحد، وجريمة الشيك بدون رصيد معناها طرح نقود لا يقابلها رصيد.
وهذا ما أكده مصرف ليبيا المركزي فى بيان مخادع حينما أعلن أنه أقرض الحكومة عشرات المليارات! أقرضها ماذا، ومن أين له أن يقرضها، ولماذا؟
طبع لها المصرف نقودا بالمبلغ الذى تطلبه بغطاء وهمي هو تعهد الحكومة بالدفع، وصُرِفت هذه المبالغ فى صورة مرتبات لموظفين لا يعملون أو جنود يتحاربون. أي أن من لا يملك أعطى لمن لا يستحق. ولان الحكومة لا تملك مصدرا للدخل كما أنها ستلتزم من جديد بسداد رواتب الثوار والموظفين الكسالى، فإنها ستقوم بإقتراض جديد وتطبع نقودا جديدة وستنهار العملة أكثر. وربما يشرح هذا الهبوط المتوالي فى سعر العملات الصعبة فى السوق الموازية فى خلال العام الماضي.
ولولا الاسلام السياسي، لكان الحل موجوداً وهو اصدار “سندات على أجَل” بفائدة قصيرة أو طويلة. فالحكومات الرشيدة تفعل ذلك فتمتص السيولة الزائدة من السوق ولا تقوم بإغراقها بعملة زائفة.
وفى جميع الاحوال توجد حلول، والحل المتاح أن يقوم البنك المركزي ببيع العملات الصعبة التي يرغب فى طرحها بالمزاد العلني بين البنوك والشركات. فإذا كان سعر الشراء معلنا ومعلوماً، فسيكون سعر البيع للمواطن معلوما ومحددا وهذا الحل ليس خترفة ولا اختراعا مني لكنه سياسة اتبعتها دول أمريكا اللاتينية فى أثناء عسرتها وتتبعها الحكومة المصرية الان فى عطاءات البنك المركزي. وهو مفيد هنا فى القضاء على الوسطاء والعملاء والسماسرة. وله حل أخر هو انخفاض الطلب على الدولار. فما دام متاحا مهما كان سعره، فسيمتنع الناس عن شراءه باعتباره وعاء للقيمة أي بضاعة تضع مدخراتك فيها.
ولن يعجب هذا الطرح الكثيرين المستفيدين والمهربين وعصابات المصارف وكبار الموظفين فى البنك المركزي وأمراء الحرب الميليشيات الحاملة للسلاح، لذا سيلجأون لإثارة العواطف واللعب على مصلحة الفقير. فهل سيستفيد الفقير وسعرُ الدولار مرتفع، أم يستفيد حين ينخفض سعره؟ وسيثيرون مسألة الاولويات والضروريات. فقد يكون الخبز ضروريا لفرد، ويكون الدواء أو العلاج فى الخارج ضروريا لفرد أخر، وقد تكون الثلاجة والسيارة أكثر ضرورة لشخص ثالت، فالشخص باعتباره مستهلكا رشيدا هو الأدرى بترتيب احتياجاته. وسيحدثك الفقهاء واصحاب العمائم عن المحن والامتحان والصبر وقت الشدة، لكنهم لن يقدموا لك طعاما ولن ينقذوك من الجوع أو المرض. والدولة ملزمة بأن تقوم بإجراءت حازمة. فسعر النفط انخفض ولا أمل فى أن يعود كما كان، والمواطن ملزم بأن يسدد القيمة الحقيقية لما يستهلكه. لقد مضت أيام الزمان الجميل إلى غير أمل فى أن تعود.
magedswehl@gmail.com
طرابلس – ليبيا