حين تعجز الأمة عن ذكر الخيارات المتعددة في مجتمعاتها أما منجزات القرن الحالي مما أصابنا بالصدمة والخيبة في آن واحد ، تموت أمتنا خلف إنجازات وهمية صنعتها الظروف والصدفة المحضة لتلك الحقبة الزمنية. والتاريخ وحده الشاهد على سماجة العقل العربي الذي يحاول جاهدا ليعد لنا أنموذجا حول عدالة هذه الأمة، العدالة المرتبطة بأشخاص وليست قيماً حضارية إنسانية، لقيم يدوس عليها الفرد ليبني عليها سيرته الشخصية، وتذهب تلك القيم وتتهاوي بموت صاحبها دون أدنى تأثير بالمجتمع. إن القيم والمبادئ التي بُنيت عليها حضارات الدنيا لم تنسب لأشخاص أو لأديان أو لمذاهب، بل تنسب تلك الحضارات للعقل البشري المحض ومن أجل الإنسانية الخالصة، ومن خلال العلوم العقلية المتراكمة التي قادها الفلاسفة اليونانيون والإغريق وغيرهم من الحضارات القديمة، وبتلك البسالة الخارقة وضعوا اللبنات الأولى لفك النزاع والاشتباك بين العقل والميثولوجيا الدينية والشعبوية التي توارثتها الأجيال فوضع العقلانيون حدّاً لها بتفكيك تلك الظواهر وعقلنتها.
أما نحن فنصنع أصنامًا وهمية جديدة ونتغنى بمجد قام بها أفراد في فترة زمنية من فترات الدولة الإسلامية. ومن بعدهاَ تتبلور الصراعات مرة أخرى في هذه المحطة من حياة أمة لا تزال تتغني بماضيها التليد المحطم، بينما يرزح إنسانها العربي والمسلم تحت وطأة الفقر والجهل والتغييب الفكري المتعمد من الجماعات الدينية المسيسة، فاقدا لقيم الكرامة والعزة و قد صمّت أذنيه أهازيج وأناشيد دينية و تربوية تعليمية لأمة لا تقهر وشعارات العزة والغلبة للمسلمين.
في ظل تتابع الفشل الذريع للمشروع الحضاري للعرب (إن وجد)، لا نجد لهم بارقة أمل في ذاكرة التاريخ لمستقبل جديد، إلا بقايا علوم تُرجمت بجهد شخصي وليست حالة عامة، وليس كما يعتقد البعض بأن التقدم الفكري في فترة زمنية محدودة من الدولة العباسية هي نتاج ثقافة دينية بل هي نتاج ترجمة فكر فلاسفة اليونان وغيرهم، ويجهد بعض المفكرين المخلصين ليحمل لنا مشعلا، تعيد لنا صورتنا الإنسانية علّنا نوفق في خيارات تسدد لنا طريق المعرفة ونشق من خلاله دياجير الوهم والإخفاق بالأمل وحب الآخرين.
لقد عانَ الكثيرون وعانت الأمم من فردانية الحكم والسلطة ومن تسيّد الحكم البابوي الديني، وما نتج عنه من حروب عانت منها أوربا لسنوات ذهب فيها الملايين من البشر وكانوا وقودا لتلك المجازر البشعة بين الكاثوليك والبروتستانت.. فتخلصت أوروبا وخلعت جلباب الدين الملطخ بدماء البسطاء من جراء عب الأفواه بثقافة الموت واللعنة الإلهية، والتي لازمتهم قرونا طويلة بفضل أسياد الموت و الفناء. فخلفت البيوت المدمرة والأنفس المحطمة في كل زاوية من زوايا أوروبا… تفرّد بعدها الفلاسفة العظام (مارتن لوثر، فولتير، كانت، سبينوزا، توما الاكوني وغيرهم) للمواجهة العلنية ودون أدنى خوف أو مواربة أو مداهنة لخلق حالة جديدة في المجتمع لتخليصهم من سلطة الكهنوت الديني، من خلال تفعيل آليات التفكير العقلاني واحترام كرامة الإنسان وحريته… والإجهاز على ما تبقى من براثن الثقافة الدينية التسلطية… ووأد الفكر الأحادي الدوغمائي واستبداله بفكر تنويري يشع من خلاله الأمل في الأعين.
باروخ اسبينوزا ولد عام 1632 في مدينة امستردام بهولندا وهو من عائلة يهودية مهاجرة من البرتغال بسبب الاضطهاد المسيحي لليهود، والتجأت إلى هولندا التي كانت أكثر البلدان ليبرالية وتسامحا مع الأديان الأخرى غير المسيحية.
وتفجر ذهن الفيلسوف العظيم سبينوزا عند دراسة الأديان بشكل عام واليهودية بشكل خاص، عن ماهية الدين وكيفية قراءة النص الديني بمنظور عقلي وإزالة ما تعلق بها ميراث لاهوتي عقيم، حتى استطاع قيادة مسيرة الإصلاح الديني المنهجي بتفكيك النص وعقلنته، وقد حورب من أهله وطُرد من رحمة الدين اليهودي، لأنه أراد فقط إعادة مكانة الرب والإله لوضعه المقدس الصحيح في حين كان يتسابق رجالات الدين في عرض هذا الإله والدين للمزاد العلني. لم يمرغ سبينوزا وجهه للسلطان ولم يحنِ رأسه لأهله وقومه، بل دافع عن مبادئه دفاع الجندي في سوح القتال، حتى تعرض أكثر من محاولة لاغتياله، ولم يثنه ذلك الإرهاب عن الدفاع عن التخلي عما يؤمن به، حتى مات وحيدا غريبا وهو بين أهله، ولعل كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة أعظم إنتاج فكري نقدي للأسطورة و للميراث الأسود للزمن القديم.
لم يكن لهؤلاء العظماء الذين أناروا بفكرهم آمال المحرومين… مصلحة سوى الإنسان وكرامته… دانت لهم الدنيا بجمالها وزخرفها ومتاعها، فأبوا إلا أن يكونوا مع المحرومين والمظلومين، بعد أن نسيهم أزلام السلطة من رجال الدين أو المتسلقين باسم الحرية والليبرالية… ليبراليون لكنهم خائفون من سلطة المتدينين والسلطان… ليبراليون قديما مدنيون حديثا… مقاتلون من أجل البسطاء ومُجنَدون عند السلطان…. خافوا من أن يُوسَموا بالليبرالية فأعطوها لغة جديدة واسما جديدا (مدنيّ).
أحبتنا المدنيون…. الليبراليون سابقا… تستعطفونهم والتاريخ مليء بفتاوى القتل والذي راح ضحيته المفكر المصري فرج فودة والمفكر السوداني محمود أحمد طه وغيرهم الكثير ممن وجد نفسه مضطرا لمغادرة بلده ووطنه ومنهم من ينتظر. وهل صدقتم بمشروعهم (الوسطية) والتي ما هي إلا سلسلة من أهدافهم الأزلية لكسب الثواب الدنيوي المال، والذي طغى على حبهم الأخروي وهو النعيم الحقيقي؟
إن البداية الحقيقية لإصلاح الحالة المقيتة التي نعيشها ويعيشها أبناؤنا، هو تعزيز معنى الثقافة والمعرفة وروح التحدي وتمكين الشباب من ملكة النقد المنهجي، والذي من خلاله يتهاوى صرحهم الخاوي من أول مواجهة حقيقية يقودها المثقفون والمفكرون، ليكونوا بذلك قد دعموا مسيرة الشباب الذين يأملون من النخب المثقفة الوقفة الجادة مع الحريات وحقوق الإنسان. وهؤلاء المتفيقهون ما هم إلا زبد البحر الذي يذهب جفاء، وما حربهم المستعرة ضد المواقع الليبرالية إلا نتاج خوفهم من تصدع الفكر الهش الذي يلقنونه لأبنائنا نهارا لينسوه مساء.
ستستمر القافلة الليبرالية تسير بخطى واثقة نحو الحرية، وخلف إيقاعات الموت والرعب المتربص بهم، وستكون المواجهة الحقيقية قادمة أمام تلك القامات المنحنية والمجوفة والمهزومة والتي تعاقب عليها الزمن، ونخر فيها وجدان حب المال وجراثيم الخيانة.
Almole110@kwtanweer.com
كاتب كويتي