في منطقة الاونيسكو، بمحاذاة ساحة حبيب أبي شهلا، أحد ابطال الاستقلال الللبناني، لوحة وضعتها بلدية بيروت على الأرجح، تفيد، عبر سهم، الى الإتجاه المفضي الى «قناة المنار»، الناطقة باسم «حزب الله».
وأنا في طريقي الى العمل يومياً مشياً على الاقدام، يقع نظري على اللوحة هذه، وأشرد لحظات بغرابة هذه المدينة، حيث للشوارع والاحياء عناوين سجالية، تدل سالكها، ليس بالاسم والارقام، انما بما يرمز الى مواقف ووقائع وايديولوجيات، كلها خلافية، خلافا حادا… ثم أمضي الى عملي وأشياء أخرى…
أول من أمس اتجه نظري نحو اللوحة، فوجدتُ دهاناً اسود يغطيها كلها، بحيث لا ترى غيره. نقِزتُ. وأثناء النهار، سألتُ من حولي ان كان هذا الفعل تكرر في انحاء اخرى من المدينة. والجواب كان: نعم، هناك من اقتلع لوحة، وهناك من حطّمها أو أحرقها. وليس بالضرورة ان تكون اللوحة لجهة محددة، انما يختلط الفاعلون ويتوزعون بين طرَفي الانقسام الوطني.
الفعل جديد. فقد ألِفنا تمزيق، أو إنزال صور الزعماء المكروهين، أو الأعلام المرفوضة، أو طلي الاعلانات التجارية الخادشة للحياء بالدهان الغامق.
اما تسويد لوحة بلدية، أو تحطيمها، أو…! فهو فعل ينطوي على اخطر مما تنذر به قصة الصور او الأعلام. فاللوحة رفعتها البلدية بغرض إرشاد المواطنين، ليس الى «قناة المنار» فحسب، انما لكل الجهات والعناوين الذي يوجه اليها سهمها.
وهذه الخدمة التي تقوم بها البلدية تجاه المواطنين تمولها من جيوبهم، بالضرائب الخاصة لهذه البلدية. والذي اقترف هذا الفعل عطّل مصالح الذين يمرون بالميدان بأن عتّم على الاشارة التي كان يمكن ان ترشدهم الى المكان المقصود. وهو، على الأرجح، مشحون بنوع من العاطفة السلبية تجاه لـ»حزب الله»، تدفعه الى إلغاء وجود قناته التلفزيونية رمزيا؛ انه نوع من الاقصاء في عالم المعاني…
الأرجح ايضا انه مواطن بسيط، مأخوذ، مثل غيره من المواطنين، بالانقسام الوطني الحاد حول الثورة السورية. وفعله كان يمكن ان يكون تافها، وربما سخيفاً، لو لم يندرج في سياق نوعية هذا الانقسام، المدمرة المرعبة.
وأمر هذا الانقسام لا يقتصر على السياسيين و»خبراء» التوك شو؛ فالاولون يستطيعون التصالح وابرام محاصصات تحميهم من العوز مدى الدهر، فيما «الخبراء»، خصوصا النجوم من بينهم، يتوقون الى شجارات تلفزيونية ترفع شهرتهم الى أعلى.
الامر لا يتعلق بهاتين الفئتين، قلنا، وهما الأكثر بروزا على المسرح اللبناني. انه اعمق من ذلك، انه أمضى. هبط الى اسفل، تسلل الى أدق الانسجة، اتفه الاوجه، أكثرها يوميةً؛ في قلب المجتمع الاهلي، وخباياه ومسامه.
اللبنانيون الآن ينفذون بدقة متناهية، بقلبهم وعقلهم وكل حواسهم، مقولة «تلازم المسارين» السوري اللبناني. يستفيقون على سوريا وينامون على سوريا، وهم منقسمون. ومنطق انقسامهم، جعلهم متمترسين، معبئين، خلف احد الموقفين: مع او ضد النظام السوري، مع أو ضد الثورة السورية.
وباستثناء قلّة قليلة، لا وزن لها، يقوم هذا الانقسام، السياسي بالجوهر، على القاعدة المذهبية اياها: السنة يرون فيها ثأرا من هيمنة شيعية كسرت شوكتهم الماضية. والشيعة يرون فيها تهديدا لمكتسباتهم على الارض وعودة الى عهد الاستضعاف والمحرومية. تحتشد خلف هذا الانقسام بقية الطوائف الاخرى، موزعة بين القطبين.
وكلما اشتدت المقتلة ضد الشعب السوري، كلما تأججت عصبية الاثنين. تسرّبت من المجال السياسي واخترقت انسجة اخرى، لم تكن على كل حال محصنة، فانبثت في ثنايا غير معهودة. والأكثر نشاطا وحضورا الآن في التعاطف مع الشعب السوري هم التيارات السلفية الآخذة بالتوسع في المناطق السنية على نفس وتيرة الثورة السورية. المخيف في الموضوع انه، بعد الاسلامية السياسية الشيعية المتمثلة بـ»حزب الله»، ها قد طالت السنة الاسلامية السياسية، وتعدهم بالمزيد، مع انعتاق «الجماعة الاسلامية» من أسر تحالفها مع حزب الله وتوسع «السلفيين» وعودة «حزب التحرير» الاسلامي.
انقسام وطني محوره تسلف السنة الجديد وتشيع الشيعة القديم يتموضع على وتيرة الثورة السورية، وينبىء بانقسام مذهبي تقوده اصوليتان، شيعية\سنية. انها هدية مسمومة لثوار سوريا. فهم، بتنسيقياتهم الشعبية لا يكفون عن مقاومة المذهبية التي يعمل النظام على توريطهم بها عنوة. فيما نحن بانقسامنا النوعي هذا، نسقط مذهبيتنا الاصولية المتطرفة عليهم، ننقلها من ابسط تفاصيلنا واسخفها… لندعم بذلك جناحا مذهبيا او نوجده او نحييه… فيعود هذا الاتجاه، بحركة او ايماءة او شعار…. فيعزز تشظّينا وكراهيتنا لبعضنا البعض.
وهكذا يدور دولاب ما نسميه قدرنا، فيما هو من صنع ايادينا وبشاعة نفوسنا، لنصرخ بعد ذلك «امبريالية….! صهيونية….!». ان ملحمية الثورة السورية وشغفها وعنادها تستحق اكثر من ذلك. هبة تكون بمستوى حدثهم التاريخي الجلل هذا، صنع اياديهم وشهدائهم. أما ان نصدّر لهم ركاكة عصبياتنا، أن نجرهم الى الوراء…. فهذا أمر مشين بحقهم وحقنا. ولا تسألوا ساعتها عن «معنى لبنان»… الا من اجل الثرثرة في المؤتمرات.
كل الموضوع بدأ مع لوحة اعلانية. ولكي يبقى دهنها بالاسود مجرّد جنحة تضر بمصالح المواطنين، لا نذير شؤم، نحدس مهده ولا نستطيع تلمّس لحده… خصوصا اذا ما وجد في المحيط الاقليمي ما يناظر هذه العصبية ويحولها الى حرب اقليمية مذهبية، طاحنة وفوضوية، أين منها حربنا الاهلية الماضية، ذات الطراز الخاص، المحصورة في ضيق مساحتنا…
نحتاج الآن الى اصوات تتجاوز طائفتها. أصوات جامعة، ندية. اول الغيث، تأسيس موقع على «الفايس بوك»، حمل اسم «لبنانيون من الجنوب اللبناني مع ثورة اهلهم في سوريا».
يقول البيان الاول للمجموعة: «نحن مواطنون لبنانيون من الجنوب اللبناني، من مشارب سياسية وفكرية مختلفة، عانينا الاحتلال الاسرائيلي والتهجير والنفي والحروب على مدى عقود، وعانينا كذلك ظلم الفيتو الذي كانت تستخدمه اميركا في مجلس الامن لحماية جرائم اسرائيل ضد اخوتنا واطفالنا، نؤكد، وقوفنا الى جانب الشعب السوري، وهو يكمل السنة الاولى من عمر ثورته، ثورة الحرية والكرامة، واسقاط الاستبداد وطي حكم القمع القابض على سوريا منذ 40 عاما. ونتوجه الى اهل مدينة حمص الذين استقبلوا كما الكثير من اهل المدن والبلدات السورية نازحين من قرانا الجنوبية خلال حرب تموز، لنحيّي صمودهم في وجه الهجمة ولنقول ان انتصارهم هو انتصار لجميع الاحرار».
بقية الغيث، أن تتكون مجموعات مماثلة، خارجة عن تعبيرات عصبياتها الطائفية، أو تسلفها المفضي بالضرورة الى المزيد من العصبية. ثم ان تصنع هذه المجموعات المنطقة الآمنة التي يلوذ اليها كل من خبر التناحر الأهلي، واقسم ان لا يكرّرها. منطقة آمنة من كل العصبيات. هل نحلم؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل