تتطرق هذه المقالة وما يتبعها إلى تفكيك الدعوى التي ألمحت إليها في مقالي السابق ويرددها بعض الدارسين عن وجود أوجه شبه بين الوهابية والبروتستانتية، اللوثرية وغيرها، والخلوص إلى بعض النتائج التي تؤكد أن ظروف النشأة ربما كانت متشابهة إلى حد ما في بعض دوافع الحركتين، ولكن الفوارق بينهما في التطورات والتحولات والتشكل النهائي أكبر بكثير مما يتصوره بعض الباحثين، إضافة إلى استعراض – أحياناً – لبعض صفات الرجلين لوثر وابن عبدالوهاب، مع العودة في ثنايا المقالات القادمة إلى أساس الفكرة التي تم طرحها في المقال السابق عن إمكانية الوصول إلى إسلام بلا مفتين.
قبل فترة دار نقاش بين مفكرين أتراك حول حقيقة ماذكرته دراسة من أن ثمة أخلاقاً بروتستانتية ‘’رأسمالية’’ تقبع خلف النهوض الإسلامي للأتراك الجدد، متمثلة بالنزعة التنموية والفكر الاقتصادي. وكتب آخرون عن أخلاق بروتستانتية تجتاح أكبر الطرق الصوفية في السودان ترجمتها الفلل الفخمة والسيارات الفارهة والشركات العالمية التي يديرها أحد زعماء المتصوفة في السودان، وقد تطرق كتاب ومستشرقون وباحثون لأوجه الشبه بين الكالفينية والبروتستانتية وبين الوهابية.
إن الحديث عن أخلاق بروتستانتية تتوارى خلف بواعث أنماط التدين المستحدثة ومنها الدعاة الجدد، لا يعدو أن يكون مجرد ادعاء قصد منه التمليح والتفخيم، فالشيء الوحيد الذي يمكننا الجزم به بخصوص انتعاشها اليوم بين الطبقة الوسطى والعليا في المجتمعات الإسلامية هو أن الدين يكون في أفضل حالاته إذا اضطر للعيش في ظروف المنافسة. وهو ينزع إلى التعصب حيثما افتقر إلى التحدي وترعرع في الغرف المظلمة بعيداً عن الشمس. إن ما يحدث اليوم يلخص شيئاً واحداً وهو أن أعظم ما جادت به التحولات الكونية الكبرى الثقافية والفكرية والاجتماعية منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم هو الاندماج الموار بين شعوب العالم، حيث شكلت هذه العوامل حربة أصابت شاكلة الإسلام التقليدي وأرغمت كثيراً من زعمائه على شحذ مذاهبهم والتنبه إلى التسامح.
إن أنماط التدين هذه تهب عقول أتباعها الهشة شيئاً من الإغراء الذي ألمح إليه عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي وهو يؤكد بأن إنفاذه لأمر ديني على الرعية لابد أن يصحبه طُعمٌ دنيوي يسوِّغ ازدراده ويهون ثقله، ولكنها صرعات فضلت عدم الخوض في صلب الأفكار الرئيسة، لأنها أولاً لا تمتلك أدواتها، وثانياً لأنها لن تتمكن من التمدد والانتشار بين صفوف الشباب والفتيات إذا ما لفتت انتباه مؤسسات الفتوى التقليدية وأزعجتها بطرح الأسئلة المحرمة، وهذا عينه هو مقتل حركة النهضة الإصلاحية في أوائل القرن العشرين التي فضلت النهوض بالمسلمين عبر التحديث والتعليم وتطوير الجيش والمجالس النيابية، متجاهلة عن عمد التطرق للأفكار الرئيسة التي تمهد الطريق لنهضة حقيقية، حتى جاء الوقت الذي كانت فيه وجهاً لوجه مع الإشكالات الكبرى فكان ثمار هذا الإخفاق نخبة طرحت الدين ووقفت ضده، أعقبه نخبة الليبراليين الوطنيين الذين أجهضت كل أفكارهم تحت صيحات حروب التحرير والاستقلال التي كانت تستهدف عاطفة الدين والشرف.
كان هاملتون جب يتنبأ في أوائل القرن العشرين بأن الوهابية سوف تضمحل بعد سنوات، مودعة في ذمة التاريخ أسوة بغيرها ممن سبقها من الحركات التي انتعشت في الجزيرة العربية ثم خمدت وذهبت أدراج الرياح.
كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رسائله وتعاليمه بلغة سهلة خالية من التعقيد، مضمنة بعض الأمثلة والعبارات العامية، كان خصومه من الحنابلة وغيرهم يعتمدون لغة معقدة مملة مفعمة بالمحسنات البلاغية والبيانية، مثلتْ بهرجة الانحطاط الشامل في آداب العربية وعلومها في الفترة المملوكية، وهو انحطاط استمر أربعة قرون لم يكن في نتاجها ما يستحق الذكر باستثناء مقدمة ابن خلدون المغربي التي كانت ذروة ما أبدعته الحضارة الإسلامية، وقد كتبها في فترة اضطراب وتفكك وفساد لم يستثن القضاء والوظائف الدينية، ناعياً عصره بأنه ‘’كأن لسان الكون قد نادى في العالم بالانقباض والخمول فبادر بالإجابة’’.
في الوقت الذي أفنى أعداؤه أعمارهم في إتقان فنون ‘’العلم بها لاينفع والجهل بها لا يضر’’، وراهنوا على أن بعض الأسئلة التي طرحوها عليه كافية في إحراجه وفضحه على رؤوس الملأ، كان ابن عبدالوهاب مشغولاً بالأفكار الكبرى، وبنظرة سريعة على رسائله التي أجاب بها على تساؤلات العلماء وبعض الدروس الملخصة التي كان يأمر بتدريسها للعوام في المساجد ستلحظ جملاً عدة كتبت باللهجة النجدية الدارجة.
وهكذا كان الحال مع مارتن لوثر فقد ترك خصومه يتأنقون في اللاتينية الرقيقة بحيث لا يقرأ لهم إلا قلة من الباحثين وكان هو في كتاباته يعتمد اللغة الألمانية ولا يكتب باللاتينية إلا في حال مخاطبته للعالم المسيحي، اعتمد لوثر لغة سهلة تمتد جذورها في كلام الناس وتلاءم العقلية القومية، وكان أعظم خدمة قدمها للأمة الألمانية ترجمته الكتاب المقدس إلى لغتهم القومية، وتضاهي تفاصيل بداية مشروعه الذي استمر حتى اللحظات الأخيرة من حياته قصة جمع القرآن في فترة حكم أبي بكر، فقد كانت لجنة جمع القرآن تقوم بالبحث والتحري لجمع كل ما يتحصل لهم من نصوص القرآن الموزعة بين الناس في جريد النخل واللخاف وورق الحرير والقماش وصدور الرجال، وكان لوثر وأتباعه يعمدون إلى مساءلة الناس والعجائز والشيوخ لتأليف قاموس للغة الألمانية يساعد في إعادة كتابة الكتاب المقدس، إلا أن ابن عبدالوهاب لم يكن بحاجة إلى أن يخاطب العالم الإسلامي وفقهاءه وزعماءه بلغة أخرى غير اللغة الوحيدة التي توحدهم وهي العربية، ولكن عربيته التي خاطب بها أهل الجزيرة العربية بدت متواضعة ولكن قائمة بالغرض، وإن كان لا يمكننا بحال أن نضاهي بين أسلوبه وبين الإهاب الذي ارتدته لغة حفيده عبدالرحمن بن حسن أو ابن حفيده عبداللطيف بن عبدالرحمن، فضلاً عن أن نصوصه تعتبر من عيون الأدب العربي بخلاف لوثر الذي كان مع نيتشه أحد أعظم كتاب الألمانية عبر العصور وأقدرهم على امتصاص عصارتها واستنفاذ عبقريتها، وكم ستكون الوهابية محظوظة لو أنها رزقت بكتاب يضاهؤون محمد كرد علي أو شكيب أرسلان أو حتى محمد عبده يلطفون عنف أفكارها برقة وشاحها، وهو عجز جوهري لم تزل حتى اليوم تعاني منه، ربما يكون تواضع لغة ابن عبدالوهاب في نظر البعض يعود إلى التأسيس المتواضع العلمي الذي تلقاه مقارنة بغيره ممن لازموا علماء الحرمين واعتكفوا في الأروقة أو سمت بهم هممهم إلى الدراسة في الجامع الأزهر أو شرقاً نحو الهند. ولكنها في كل الأحوال كانت لغة لا لبس فيها أفصحت عن أفكاره الكبرى التي قلبت العالم الإسلامي رأساً على عقب. لم ننته بعد.
رابط المقال : http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5366
لوثر وابن عبد الوهاب
محمد بن عبدالوهاب المفترى عليه دائما