1-
بعد ابتكار وإنشاء أول جماهيرية في التاريخ، ابتكر العقيد القذافي سيارة تشكل “مستقبل صناعة السيّارات” في العالم (على الأرجح). السيارة المقصودة، هنا، ليست مجازا لشيء آخر، بل سيّارة حقيقية من تصميم العقيد. وقد جاء الإعلان عنها، كما عُرض نموذجان منها في العاصمة الليبية في الذكرى الأربعين “لثورة” الفاتح.
السيارة اسمها الصاروخ. طولها خمسة أمتار ونصف المتر. صُممت على هيئة زورق “لتأمين حد أقصى من السلامة”. مُوّلت برؤوس أموال ليبية. توّلت تصنيعها شركة إيطالية. وتُقدّر تكلفة النموذج الأول بمليوني يورو، أي ما يناهز ثلاثة ملايين دولار.
وفي الكتيّب الذي وزّع على الصحافيين في طرابلس ما يفيد بأن فريق المهندسين والخبراء الإيطاليين التزم حرفيا بالتصميم الذي وضعه العقيد “لإنتاج السيارة المثالية وفق رؤية الزعيم”. الإسهام الليبي لم يقتصر على التصميم، بل شمل أيضا “استخدام الجلد والأقمشة الليبية لتجهيز السيارة من الداخل”. انتهى الخبر.
2-
هل ثمة ما يستحق التعليق؟
لا أعتقد. ربما ثمة ما يستحق التذكير بأشياء من نوع:
أن العقيد جرّب مهنة المُفكر، وما يزال مولعا بها حتى يوم الناس هذا، وما تزال قناعته راسخة بأن تبني البشرية للكتاب الأخضر سيحميها من الشرور ويخلصها من الآثام. وإلى جانب المُفكر جرّب مهنة الموّحد فحاول جاهدا توحيد العالم العربي، وعندما أعيته الحيلة والوسيلة وضع القارة الأفريقية نصب عينيه، لعل وعسى.
وإلى جانب المفكر والموّحد جرّب مهنة الأديب فكتب القصص القصيرة، وأفتى في شؤون الأدب. وإلى جانب المفكر والموّحد والأديب جرّب مهنة المهندس، فشق النهر الصناعي العظيم، وكتب على ألواح دُفنت في الصحراء الليبية (ذكرى للأجيال القادمة) ما يفيد بأن ولادة النهر تمت على يده وفي عهده. وقبل أيام طالب الأمم المتحدة بتفكيك سويسرا. والطلب الأخير يندرج في قائمة طويلة من الطلبات والمبادرات المبتكرة على مدار العقود الأربعة الماضية.
إلى جانب كل ما تقدّم أطلق العقيد على نفسه تسميات مختلفة من نوع:
قائد ثورة الفاتح. وأمين القومية العربية. ومفجّر عصر الجماهير. والقائد الأممي الثائر. وإمام المسلمين. وقائد القيادة الشعبية الإسلامية. وعميد الحكّام العرب. وملك ملوك أفريقيا (وقد بويع وتسلّم تاج الملك وصولجانه من بعض ملوك القبائل الأفريقية). وفي عهده أصبح الاسم الرسمي لليبيا “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى”. وفي السياق نفسه ابتكر تقويما جديدا بدل التقويم الهجري، وأسماء جديدة لشهور السنة بدل الأسماء القديمة.
3-
ما تقدّم غيض من فيض. فالتجليات الإبداعية للعقيد كثيرة ومثيرة. ومع ذلك ثمة ما يستحق التأمل، وما يمكن أن يُصاغ في أسئلة من نوع:
كيف نفسر التناقض بين تراكم الألقاب والمهن من ناحية وفشل أغلب مشاريع السياسة الداخلية والخارجية من ناحية ثانية، وكيف يمكن على خلفية تناقض كهذا تفسير بقاء العقيد لمدة أربعة عقود في الحكم، وهي مرشحة للاستمرار بطريقة مباشرة ما دام على قيد الحياة، ومرّشحة للاستمرار بطريقة غير مباشرة بتوريث الحكم لأحد أبنائه؟
للوهلة الأولى يبدو العقيد القذافي بلا مثيل بين الحكّام العرب. ومع ذلك من شأن نظرة متفحصة اكتشاف أن الفرق في الكم لا في الكيف، وأن ما يمثله من حالة قد تبدو متطرفة نوعا ما يمثل اختزالا وتنويعا وتضخيما لخصوصية أكثر ديمومة تسم الحكّام العرب.
فمحاولة تجريب مهن مختلفة، وإطلاق الطاقة “الإبداعية” للحاكم العربي في مجالات لا تعد ولا تحصى، أمر مألوف. صدّام حسين، مثلا، حاول تمثيل دور المفكر والأديب والموّحد والمهندس والجنرال، فكتب الروايات، وصمم النصب التذكارية، وصاغ نظريات قومية، ووضع خططا عسكرية، واجتهد في علوم التاريخ والاجتماع. وحكّام الجمهوريات الملكية في العالم العربي يملكون سلطات توازي أو تتجاوز سلطة الملوك، وأغلبهم يمهدون لتوريث الحكم لأبنائهم وأقاربهم، بعدما افتتح الأسد الأب عهد التوريث في سوريا.
والسؤال الأهم: هل نجح هؤلاء في البقاء في سدة الحكم، وفي إنشاء جمهوريات ملكية نتيجة الاعتماد على المخابرات والجيش في إدارة شؤون البلاد والعباد، أم في بنية وثقافة وخيال وميراث المجتمعات العربية نفسها ما يسهم في ظهور حكّام كهؤلاء، وما يمكنهم من البقاء في سدة الحكم حتى الرمق الأخير؟ الواقع مزيج من هذا وذاك.
ربما يكمن مفتاح السر في بنية وثقافة وخيال وميراث المجتمعات العربية نفسها. قادة الفصائل الفلسطينية، مثلا، والكثير من قادة أحزاب المعارضة في العالم العربي (وهم بلا جيوش ولا مخابرات) يحتفظون بالمنصب مدى الحياة. ولا فرق بين يمين ويسار، وبين علمانيين وأصوليين، وبين من يتكلمون عن الديمقراطية ومن يعادونها.
في وضع كهذا يمكن العثور على تجليات صافية وبديعة للكوميديا السوداء، وعلى مصدر لا ينضب تقريبا للتعامل مع الذكاء الإنساني بكثير من الحذر والتحفّظ. ومع ذلك تتجلى المأساة صافية، وإغريقية تماما، عندما يضيع الفرق بين الحاكم والوطن، فيتماهى هذا بذاك، إلى حد يصبح معه بقاء الحاكم، حتى وإن جلب البلاء على البلاد والعباد، دليلا على صمود وكرامة وربما انتصار الوطن، وإلى حد أن الكلام عن الحاكم بما لا يرضيه يصبح خيانة للوطن.
***
ذات يوم سألت محمود درويش: هل رأيت مقابلة القذافي المتلفزة يوم أمس (كانت أخبار وتصريحات وابتكارات العقيد موضوع حديث بيننا وتعليقات دائمة) قال: لا، ثم استدرك بسخرية مألوفة وأنيقة: لم يعد مسليا.
وقد عادت بي الذاكرة إلى تلك الجملة عندما اطلعت في صحف الصباح على خبر السيارة الجديدة، بعد أيام قليلة من الدعوة إلى تفكيك سويسرا. ويبدو أن الساحر والساخر الأنيق كان مصيبا، فلم يعد العقيد مسليا.
Khaderhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني- برلين
لم يعد العقيد مسلياً…!!
أم إن هنالك ما يقارب الـ299 مليون قذافِ عربي؟ أي باستثنائي، أنا (طبعاً)، عبدكم الكريم، وبضعة أكوام عرب متبعثرين صدفة، هنا وهناك، شرقاً وغرباً؟.. المهم، لا بأس بالصاروخ الفاتحي السبتمبري الجماهيري الشعبي الليبي الاشتراكي … الأعظم، طالما لم يتفتق بعد دُمَيغ العقيد عن تصنيع جمل ميكانيكي أصيل، يتولى فبركته مهندسو حزبل في الضاحية الجنوبية، أو مهندسو نظام الممانعة الحوراني، أو ولما لا يا ربي؟ المهندس، الشهير جداً، والمنحدر تماهياً وتأصلاً، من المجرور العروبي الطافح هذا، عنيت جبران باسيل، اللبناني، بالطبع…
لم يعد العقيد مسلياً…!! بالاعتذار من (محمود درويش) : القذافي كان وما زال وسيبقى مسليا .. والدليل يا استاذ خضر مقالك , فيما يلي مدخل آخر : روى لي احد مستشاري الملك حسين (الاردن) التالي : في اوائل السبعينات طلب احد الموظفين الاجتماع به لأمر هام .. تبين ان محطة اذاعة ليبية تبث برامج تسيء للاردن والملك شخصيا وان بثها يغطي الاراضي الاردنية , فسأل الملك الموظف : وماذا عن اذاعتنا هل تصل ليبيا , فأجاب : بالكاد تصل دمشق , فضحك الملك قائلا : دع الشعب الليبي يسمع بنا , ما المشكلة ! في العصور الاولى كانت الرعية تعبر… قراءة المزيد ..
لم يعد العقيد مسلياً…!!
كم انت مبدع يا قائدنا ياملك ملوك افريقيا