يُعرّف الإيطالي أمبرتو إيكو، في عبارة لامعة، الكتب على النحو التالي: “الكتب: كتبٌ تتكلّم عن كتب”. يبدو هذا التعريف، للوهلة الأولى، صادماً لكل التصوّرات التي تجعل من الكتب نتاجاً فردياً وفريداً لأصحابها، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا من تداعيات ودعاوى الإبداع وخصوبة خيال الفرد. بيد أن عودة سريعة إلى علوم الأدب تعيد التذكير بحقيقة أن فعل الكتابة، في الواقع، كتابة على الكتابة. كان محمود درويش يقول: خرجنا كلنا من عباءة المتنبي.
لفعل الكتابة، خاصة في حقل الأدب، استراتيجيات مختلفة من بينها التناص، والمحو، والاسترجاع، والمحاكاة. فموضوعات الأدب الرئيسة منذ العصر الحجري، وحتى يوم الناس هذا، قليلة لم، ولن، تتغيّر: الحب، والموت، والحرية، والعدالة، والطبيعة، والجمال، مع كل ما يتصل بأشياء كهذه من دلالات، وتداعيات، وأخيلة، واستيهامات لا نهائية تقريباً.
وربما نعثر على أفضل تفسير لنجاح الكتّاب، على مدار قرون، في كتابة “الجديد”، على الرغم من اشتغالهم على الموضوعات نفسها التي اشتغل عليها سابقوهم، في الصورة المجازية التي رسمها سلمان رشدي لبحر تعوم فيه “القصص” كما يعوم السمك في الماء، بعض “القصص” تُصاب، من وقت إلى آخر، بعطل من نوع ما، وتحتاج للإصلاح وإعادة التشغيل، وهذا ما يفعله الكاتب، الذي يقوم بوظيفة الميكانيكي، ويضع قطع غيار جديدة مكان القطع المعطوبة.
ولا ضرورة، في الواقع، للاستطراد في تفسير مجاز العطب وعلاقته بتغيّر الذائقة والأزمنة. كل ما في الأمر أن الكتّاب لن، ولم، يكفوا عن إعادة إنتاج “قصص” أيسخيلوس، وشكوى المصري الفصيح، وغلغامش، منذ عشرة آلاف عام، ونجحوا، بقدر متفاوت من الكفاءة، في اكتشاف المعطوب، وابتكار الصالح من قطع الغيار. وربما ينبغي التذكير، هنا، بحقيقة أن فعل كتابة على الكتابة لا يقتصر على “الأفكار”، و”الموضوعات” بل يشمل الشخوص، أيضاً. وهذا ما أتحفنا به جوزيف كامبل في كتابه العمدة “البطل بألف وجه”، الذي فسّر فيه وجود بنية حاكمة لإعادة إنتاج نماذج أصلية.
وإذا ما أبقينا أعيننا مفتوحة على القرن العشرين، الذي يشكّل ذاكرتنا الثقافية، حتى وإن كانت شخوصه الأدبية إعادة إنتاج لنماذج أصلية عمرها آلاف السنين، فلنقل إن بعض الشخوص ينجح في الخروج من صفحات الكتب، ويعيش حياة مستقلة، باعتباره جزءاً من المخيال الثقافي والأدبي في هذا الحقل الثقافي أو ذاك، ليصبح مجازاً لواقع بعينه، ومفتاحاً لفتح أبوابه.
فلنفكر في مرسو، مثلاً، الفاعل الرئيس في “الغريب” رواية البير كامو، التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب الفرنسي. ولنفكر في السيد أحمد عبد الجواد، وولديه ياسين، وكمال، وأمهما أمينة، في ثلاثية نجيب محفوظ، التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب العربي.
لكل من هؤلاء حياة مستقلة خارج “الثلاثية”، تجلّت في ما لا يحصى من أشكال المحاكاة، وفي لغة السياسة، والتاريخ، وعلم الاجتماع. لا يعرف الكثيرون محفوظ وثلاثيته، لكنهم يعرفون السيد أحمد عبد الجواد، وزجته، وأولاده، عن طريق الأفلام، والمسلسلات، وإشارات كثيرة في أدبيات السياسة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وحتى في لغة الحياة اليومية، التي أصبح فيها تعبير “سي السيّد” مجازاً لرب العائلة الشرقي، وحياته المزدوجة في البيت وخارجه.
والأمر نفسه يصدق على حياة ومصير شخصية مرسو، و”قصته” في فرنسا والعالم، فهناك ما لا يحصى من الأفلام، والأغاني، والمسلسلات، وتجليات التناص في أعمال أدبية، بلغات مختلفة، من بينها العربية.
ولكن، لماذا تنجح شخصية بعينها في الخروج من صفحات الكتب، واكتساب حياة خاصة، ومستقلة عن صاحبها الأصلي؟
الواقع إننا لا نعثر على تفسير دون الاستعانة بالتاريخ، وعلوم الاجتماع، و”السوق”. فمرسو، مثلاً، لا يصبح قابلاً للحياة دون حطام وخواء عالم ما بعد الحربين الأولى والثانية، وجراح المتروبول الكولونيالي النرجسية، في زمن انحسار الإمبراطورية. وعائلة أحمد عبد الجوّاد لا تصبح قابلة للحياة إلا على خلفية صعود الطبقة الوسطى المصرية، والحركة الوطنية، وجامعة فؤاد الأوّل، والأحلام المُجهضة لزمن أسماه ألبرت حوراني “العصر الليبرالي“.
كانت للوجوديين في فرنسا، وأوروبا، بعد الحربين الأولى والثانية، قيمة تسويقية عالية، بحكم قانون العرض والطلب. وكانت للطبقة الوسطى المصرية (والعربية إلى حد ما، في الحواضر) قيمة تسويقية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بحكم القانون نفسه.
والمفارقة، هنا، أن “قصة” مرسو، وعلى الرغم من حياته المستقلة في السينما، والتلفزيون، والمسرح، وعلوم السياسة والأدب، لا تزال قابلة للعوم في الوقت الحاضر، بعد تصليحها على يد جزائري هذه المرّة، بينما تعيش “قصة” السيد أحمد عبد الجوّاد وعائلته في منابر الفرجة المرئية نفسها، وإلى حد ما في علوم السياسة والأدب، وتنتظر ما يمكنها من العوم،.مجدداً، في بحر القصص.
وللأمر، في الحالتين، علاقة بقطع الغيار والسوق. ومن حسن الحظ أن لدينا، في هذا الصدد، نموذجين يفسّر كلاهما على طريقته الدلالة السوسيولوجية والثقافية (والسياسية، إن شئت) لقطع الغيار، وما يمكن أن ينشأ بينها وبين السوق من علاقة تكافل أو احتراب.
يتجلى النموذج الأوّل في رواية بعنوان “تحقيق ميرسو”، للجزائري كمال دواد، صدرت بالفرنسية قبل عامين، وظهرت ترجمتها الإنكليزية في حزيران الماضي، وفيها يحاول الكاتب استعادة العربي القتيل في رواية كامو. ويتجلى الثاني في رواية بعنوان “البنت في بيت العنكبوت” لديفيد لاغركرانتس، صدرت بالسويدية (2015) وظهرت ترجمتها الإنكليزية قبل أسابيع، وتعتبر الجزء الرابع في ثلاثية ذائعة الصيت للسويدي ستيغ لارسن.
ولنا، في الأسبوع القادم، عودة إلى هذين النموذجين للتفكير في أسئلة من نوع: لماذا وكيف تصبح “القصص” قابلة للعوم.
khaderhas1@hotmail.com