ارتبط تعبير العملاء بظهور الدولة القومية الحديثة بعد توقيع معاهدة وستفاليا1648 للإشارة إلى المتعاملين مع الدول الأجنبية بغير موافقة من دولتهم.كان يقف على رأس أولئك المتعاملين :الأدباء والموسيقيون والفنانون التشكيليون، فضلا ً عن التجار ورجال المال. وهؤلاء وأمثالهم ما كان لأحد أن يسميهم جواسيس؛ فالجاسوس شخص يعمل في الظلام متخفيا ً، مقدما ً خدماته لأعداء بلاده نظير جعل معلوم، ومن ثم فإن عقوبة الإعدام هي ما كانت تنتظره حال انكشاف أمره. أما الصنف الأول فكان الاستهجان لا أكثر، نصيبه على أسوأ الإحتمالات، وفي أحسنها ربما تفاخرت الدولة، ولو بعد حين، بالنابغين من أبنائها المتعاملين مع غيرها، على غير رضاها، بنتاج المكاسب الأدبية النهائية لهذا التعامل. وفي هذا السياق يُذكر اسما الأديبين الروسيين باسترناك صاحب دكتور زيفاجو، وسولجنستين مؤلف أرخبيل الجولاج وعنبر السرطان، لا سيما بعد حصولهما الواحد تلو الآخر على جائزة نوبل العالمية في الأدب.
في كلمة ذات مغزى صرح الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة، والمرشح لمنصب مدير عام اليونسكو: إن مصر دولة ثقافة بأكثر مما هي محض دولة زراعية أو صناعية أو تجارية.. وهو ما يعنى أن مصر قد شبت عن طوق الدولة الإقليمية ذات المصالح المحدودة،لتصبح مناطا ً لإنتاج وإعادة إنتاج تراث العالم الثقافى،حيث يقبع في مخزونه ريادتها للثورة الأولى: إكتشاف الزراعة Culture، محققة بها الإستقرار، ومشيدة بها أولى الحضارات الإنسانية، ومتطلعة بها إلى فجر الضمير أن ينبلج.
بيد أن مصر المعاصرة، يلزمها لكى تؤدى دورها كدولة منتجة للثقافة، بهذا المفهوم الأوسع، أن تتخلى عن ميراث عصور كانت فيها أشبه بالجارية لدى الغير، تقبل ما يغرسه فيها الأسياد الماضويون من أيديولوجيات (لزوم استمتاعهم بها) وما يفرضونه عليها من شروط تحقق مصالحهم لا مصالحها، إذ يحيطونها ” بأوليائهم”، (ولا نقول بعملائهم) وبعضهم من أهلها يزينون لها الخضوع، أو يلوحون أمام وجهها بعصيّ الإرهاب عاجلا ً، أو ينذرونها بأوخم العواقب آجلاً إن هي جرؤت على إعلان محبتها لمباهج الحياة، أو شاءت اللحاق بركب التقدم ومواكب التحضر!
غير أن هذا الإنعتاق الثقافى المأمول مرتبط، لا ريب، بإقدام الدولة على فتح فضاءات الحرية أمام كل الناس، باختلاف مشاربهم وعقائدهم ومذاهبهم، لكى يعبروا عن آمالهم وتطلعاتهم دون خوف من قمع سلطوى أو حتى مجتمعى.. فالذات الإنسانية (والتي هى أساس كل التنظيمات بما فيها الدولة) لا يمكنها أن تحيا، فضلا عن أن تتفتح وتنتج وتصحح، إلا بالممارسة. وحسبها أن تلتزم بالدستور والقانون، فهى من أصدرهما من خلال المشاركة الشعبية، وهى من بإمكانها تغييرهما بالطرق المشروعة (= الديمقراطية) بعيدا ً عن التوجهات الشمولية، دينية ً كانت أم علمانية، وحسبها أيضا ًأن تأبى التسليم بنظريات فلسفية تنظر للحياة وللأحياء كأنظمة مسبقة تحكمها حتمية مثالية أو مادية، الفرد فيها جزء من كيان عضوى هو المجتمع، حتى وإن كانت قيمُه جامدة ًوتقاليدُه متحجرة ً، وأزماته مستعصية ًعلى الحلول.
على دولة الثقافة إذن أن تدرك (وتقبل بـ) متغيرات العصر، وفي مقدمتها انفتاح الكوكب على كل بقعة فيه، مما يشي بميلاد إنسان العالم، عابر القوميات واللغات والأيديولوجيات والحدود الإنسان الذى لم يعد يقبل بالعيش في “جرة” وإنما يتوق بكل ذرة في كيانه لكي يخرج إلى ” برة ” وبالطبع ليس شرطا ً أن تكون ” برة ” هذه أمريكا أو أوروبا.. وإنما هى تعبير مجازى قاصد إلى تأكيد مبدأ الحرية، فقد تتحقق الحرية للفلاح في حقله وقريته، إذا ما قر عنده أنه يعمل ويحصد ثمار عمله في حضن أمه الطبيعة، تحميه من جور الولاة، ويحميها من شرور مدمرى البيئة.
نموذج الفلاح المشار إيه آنفا ً موجود في بلدان كثيرة، فهل يجوز أن يوصم بالعمالة فلاحنا المصرى، إن هو انضم إليه، مشاركا ً في مؤتمراته، وضاغطا ً على حكومته لتحقيق مطالبه ومطالب أخوته فلاحي العالم؟!
لقد غربت شمس عصر كانت فيه كلمة “العميل” تثير اشمئزاز الثوريين ممن يعملون في تنظيمات سرية بقصد الإطاحة بأنظمة الحكم المستبدة، وكان العميل هو ذلك الشخص الخائن الذى ينضم إلى التنظيم ليكشف أسراره، ويبلغ الشرطة بما جمع من معلومات. اليوم وفي ظل التعددية الحزبية، وإقرار الدولة بحق منظمات المجتمع المدنى في التعاطي مع الشأن العام، وتنامى الحركات النقابية والعمالية، ومع اقتراب انهاء العمل بقانون الطوارئ ؛ فلا ريب أن مثل هذه التنظيمات السرية أضحت غير ذات موضوع.. ولا شك أن الأمر غير ذلك بالنسبة للتنظيمات الإرهابية، ولكن تلك قصة أخرى.
ومن المدهش حقا ً أن تعبير العملاء نراه ينتقل اليوم من ساحة الأفراد إلى ساحة الدول بل وإلى حركات المقاومة، ويتم تبادل الاتهامات بالعمالة بين بعضها البعض دون التفات إلى أحقية كل طرف في التحالف (حسب رؤيته ومصالحه وأيضا ً أيديولوجيته) مع من يختار، بغض النظر عن خطأ هذا الخيار أو صوابه.
فليكن لهؤلاء قواميسهم ومفرداتهم، ولنعد إلى همنا الأول وأملنا الأخير : مصر، بدولتها التي صنفها الوزير فاروق تحت عنوان دولة الثقافة، ثم مصر بنخبها اللامعة الذكية، في محاولة لفض الإشتباك بين الدولة ومواطنيها من ناحية، وبين النخب المشتبكين بالحكومة، وأيضا ًببعضهم البعض طوال الوقت من ناحية أخرى.
فأما الدولة، فلا مندوحة أمامها من أن تحذف من معجمها هذه اللفظة الشائنة، فلا تصف بها أحدا ًمن المعارضة السياسية تحت أى ظرف، بقصد التحريض على كراهيته أو الحط بكرامته الوطنية.. فالآن، ومع انفتاح السوق العالمي اقتصاديا ً، والبدء فى تأسيس نظام عالمى سياسي مختلف يقوم على مبدأ ضرورة تنازل الدولة القومية عن بعض من سياد تها لصالح استتباب الأمن الدولي، فلقد صار مألوفا ً أن نرى أفراداً – وجماعات- يتوجهون الى المجتمع الدولي مباشرة بالقفز علي حدود الدولة التي ينتمون اليها،سواء بالنشاط الاقتصادى (تجارة – استشارات – توظيف… الخ) أو بالعمل السياسىً: علي سبيل المثال فى حالة انتهاك حكوماتهم لمبادىء حقوق الإنسان. والمشكلة هنا تكمن في تحديد المعايير ضبطاً للمصطلح من الناحيتين السياسية والقانونية للتفرقة بين من يسعي للإضرار بالمصالح الوطنية لحساب مصلحته الخاصة، وبين من يتعامل مع آليات العصر وأدواته المتاحة لصالح نفسه ولصالح وطنه ولصالح البشرية في المقام الأشمل.
وأما النخب، خاصة بعض كوادر المعارضة، فالأمل معقود على أن تنهض إلى واجبها الأسمى، ألا وهو تثقيف الجماهير، وحشدها في اتجاه مصالحها الحقيقية، جنبا إلى جنب ممارستها لنقد ذاتى لا غش فيه..ومثاله، في سياقنا هذا، أن تعيد النظر طواعية ً في أساليبها المتمحورة حول ضرورة إهانة خصومها (وعلى رأسهم بالطبع الحكومة) وأقول “طواعية” قبل أن تضطر إلى ذلك حين يصدر قانون مكافحة الإرهاب، مع تحفظاتنا على محاولة الزج بإجراء عقابى ّ بهذا المعنى ضمن بنوده، حيث تكفى مواد قانون العقوبات الحالى للتعامل مع متعمدى إهانة الناس، حكاما ً كانوا أو محكومين. ذلك أنه قد آن الأوان لمصر أن تكون دولة ثقافة لا دولة إهانات.
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
لماذا لا تحذف كلمة “عميل” من قاموسنا السياسىّكل شيء له ثمن حتى” نوبل” الجائزة الأولى في العالم . لقد غربت كلمة “العميل” للإنسان ” بفضل العولمة” وانتهاء السوفيت 1991 , العمالة أصبحت دولية , كل الأنظمة العربية “عميلة”, هم كانوا وسوف يظلوا إلى نهاية الدهر عملاء , الدول التي تملك سيادة وقرار خاص كلها خارج جامعة الدول العربية- الهند , الصين , إيران ,.., ., .. – هده أنظمة تحمل في طياتها أيديولوجيات الخاصة بها, مهما طال جدار العداء بين العرب وإيران, فقول الحقيقة واجب , إيران آخر دولة إسلامية ذات إيديولوجية محددة, خاصة , واضحة, غير مستوردة , إن… قراءة المزيد ..
لماذا لا تحذف كلمة “عميل” من قاموسنا السياسىّ، وكلمة “الكافر” أيضاالحقيقة أن دولة الثقافة لن تتحقق بسهولة، بل يتطلب الأمر مواجهة مباشرة وصريحة مع التيارات الظلامية وعلى رأسها تيار الإسلام السياسي. هذا التيار هو الذي يقف أمام جعل مصر دولة ثقافة بحق. يخطئ الكثيرون عندما يعتقدون أن الدولة هي من يقف أمام الانفتاح الثقافي والحضاري لمصر على العالم، بل هي الجماعات الإسلامية. أقترح كبداية لتنفيذ مثل هذه الغاية دعاية المثقفين لما يمكن أن يكون مشروعا لتجريم التكفير، أي منع السلطات الدينية من استخدام سلاح التكفير ضد كل مبدع وفنان وناقد. التكفير هو حكم بالقتل على إنسان، وليس من حق السلطة… قراءة المزيد ..
لماذا لا تحذف كلمة “عميل” من قاموسنا السياسىّ
أتصور أن تصبح مصر دولة ثقافة حين يسود مثل هذا الفكر العقلانى المستنير والذى عبرعنه – بامتياز –كاتبنا مهدى بندق . وقد أضيف الي ما اقترحه ضرورة أن تقوم الدولة بتنقية منظومة القوانين من أية نصوص تتعارض مع المبادئ الواردة بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامةللأمم المتحدة ( ومصر كانت من أوائل الدول الموقعة عليه ) فلقد آن الأوان لهذا البلد المظلوم لكي
يلحق بركب الضارة الإنسانية نحو غد أكثر إشراقا وجمالا ، وكفانا رضوخا لطيور الظلام الصحراويةالجارحة .