وسط كل المآسي التي يشهدها العالم في هذه الأيّام، لا بدّ من التوقف عند حدث نادر على الصعيد الدولي. يتمثّل هذا الحدث في احتفال كبير أُقيم في مقرّ الأمم المتحدة على هامش افتتاح الدورة السنوية العادية للجمعية العامة.
في مناسبة الإحتفال الذي كان موعده يوم الثلاثاءالواقع فيه التاسع من آيلول ـ سبتمبر الجاري، مُنح أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد لقب “القائد الانساني”.
تولّى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مهمّة تكريم الكويت عبر الشيخ صُباح بمشاركة كلّ الوفود التي تحضر افتتاح الجمعية العامة في نيويورك. باختصار، كرّم العالم أمير الكويت الذي لم يكتف بوضع نفسه في خدمة بلده طوال نصف قرن، بل عمل على جعل الشعور الإنساني يطغى على السياسة. تمكّن على الأصحّ من تغليب هذا الشعور على كلّ ما عداه وجعله يقود السياسة، أقلّه في الكويت، بدل أن يصبح ضحية لها. ما الذي قدمه أمير الكويت للعالم ولوطنه كي ينال عن جدارة هذا التكريم الفريد من نوعه وكي تحمل الكويت لقب “المركز الإنساني”؟ ببساطة، امير الكويت هو من الزعماء القلائل في المنطقة والعالم الذين ينحازون الى الانسان في كل قرار يتخذونه. تكريمه هو تكريم للإنسان أوّلا. تكفي عودة سريعة الى كل خطاباته ومواقفه للتأكّد من وجود الانسان اكثر من اي شيء آخر فيها، أكان ذلك داخل الكويت أوخارجها. فالأمير ـ الإنسان يفصل داخليا بين السياسة والاعيبها وتكتيكاتها من جهة وبين مصلحة المواطن والمقيم في الكويت من جهة أخرى.
يفضل أمير الكويت الحديث عن التربية والتعليم والصحة والتطور التكنولوجي وتحديث الادارة اكثر من الحديث عن الجدل السياسي ومطالب هذا الفريق المؤيد او المعارض. يطلب من الشباب ان يسلكوا الطريق الحقيقي، طريق العلم والمعرفة، اذا ارادوا ان يكونوا قادة المستقبل، ولا يوفر فرصة لمساعدتهم في مشاريعهم الا يقدم وعليها.
يرفض امير الكويت اي اخلال بمبدأ التوزيع العادل للثروة على الكويتيين، ويجمد اي مشروع يشجع على التواكل ومكافأة المتقاعسين على حساب المنتجين، كما يعمل في الوقت نفسه على توفير حياة رغدة للأجيال القادمة عن طريق دعمه اللامحدود لصندوق الاجيال الذي وضع فكرته الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد واصبح مثالا يحتذى به في كل الدول. في السياسة، جنبت مواقف الشيخ صباح الكويت الكثير مما كان يمكن ان تشهده بفعل غليان الاقليم وبرامج واجندات بعض القوى الداخلية التي اعتقدت ان بدء ما يسمى بالربيع العربي يمكن ان يحقق مآربها في الداخل الكويت من خلال طرح مشاريع تقضم تدريجيا مقومات النظام الحاكم. كانت مواقف امير الكويت سدا حقيقيا امام استفحال الانقسامات المذهبية والطائفية التي شجّع عليها الإخوان المسلمون وغيرهم. كانت اجراءاته السياسية السلمية، ولكن الحازمة في الوقت ذاته، معبرا للخروج من حالة الفوضى الى حالة الاستقرار من دون نقطة دم واحدة. لذلك حصلت الكويت في عهده على مراكز متقدمة في لائحة أكثر البلدان العربية أمانا واستقرارا.
في السياسة الخارجية حدث ولا حرج. واذا كانت مبادرات الشيخ صباح تجاه المأساة السورية هي السبب المباشر لمنحه لقب القائد الانساني الا ان تاريخ الرجل الانساني يتجاوز اللقب الممنوح اليه. فما من مشكلة عربية الا وكانت له اليد الطولى في حلها، وذلك بدءا باليمن في ستينات القرن الماضي وصولا إلى لبنان في السبعينات والثمانينات من ذلك القرن. وما من مشكلة اقليمية الا واعمل وساطاته فيها حتى تصل الى بر الحل. همه الدائم حقن الدماء وإنقاذ الأرواح ومساعدة الفقراء وتنمية الدول ومساعدتها على النهوض من الجهل والجوع والدمار، ذلك الحرص لم يقتصر على دولة بعينها أو منطقة دون أخرى بل شملت بقاع العالم قاطبة دون تفرقة بين الشعوب المنكوبة في الجنس أو العرق أو الدين أو اللون. من حل الخلافات العربية ـ العربية، والعربية ـ الاقليمية، ومن موقفه الرائد لاغاثة السوريين وتكريس منظومة المانحين، ومن دوره في بلسمة جراح غزة وجهوده الواضحة لرأب الصدع الخليجي…الى وجود بصمة له في كل عمل انساني في آسيا وافريقيا وبعض الدول الاوروبية حتّى، وتقدمه الصفوف الاولى للدعم والمساعدة عند كل كارثة طبيعية او بشرية في اي مكان في العالم… لذلك كله استحق “حكيم العرب” لقب القائد الانساني.
إنّه الإنسان الذي يعمل في خدمة الكويتيين أوّلا. وهذا ما جعل الكويت تستعيد استقلالها وسيادتها وثرواتها بعد المحاولة الأثيمة التي استهدفتها صيف العام ١٩٩٠. لعب صُباح الأحمد مع الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله، رحمهما الله، الدور المطلوب من أجل انقاذ الكويت من براثن الإحتلال. لم يترك الثلاثة، مدعومين بتلاحم الكويتيين وتصدّيهم للإحتلال الصدّامي، مجالا لأي تردد في حشد الدعم الدولي للكويت التي استعادت حريتها لأنّها وقفت، قيادة وشعبا، مع نفسها أوّلا قبل أن يقف الآخرون معها.
من هنا،لا يمكن إلّا التوافق مع الشيخ سلمان صباح سالم الحمود الصباح وزير الإعلام الكويتي الذي اعتبر أن تكريم الأمم المتحدة لأمير الدولة “محطة تاريخية بالنسبة إلى الكويت”. إنّها بالفعل محطة تاريخية، خصوصا اذا أخذنا في الأعتبار أن هناك في الكويت من يسعى إلى البناء، من منطلق انساني، بعيدا عن أي تدخل في شؤون الآخرين. مثل هذا التوجه نحو البناء والإستفادة من تجارب الماضي القريب ليس حماية للكويت وحدها، بل لكلّ المنظومة الخليجية أيضا.
اكتسبت الكويت من التجارب ما مكّن الأمير من الإستثمار في كلّ ما من شأنه المساهمة في الإستقرار الإقليمي حفاظا على الحدّ الأدنى من التفاهم والتعاون بين أهل الخليج خصوصا. ليس لدى الكويت ما تستحي به بعد كلّ ما فعلته من أجل تأمين مستقبل أفضل لأبنائها وحمايتهم من التطرّف بكلّ اشكاله. ليس لدى الكويت ما تستحي به بعدما حافظت على نفسها ولعبت دورا في المحافظة على دول الجوار من منطلق الإستثمار في الإنسان أوّلا.
هناك مثل صيني يقول أنّه بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة. وسط هذا الظلام الدامس الذي يمرّ فيه الشرق الأوسط والمنطقة كلّها والعالم…أضاء صُباح الأحمد أكثر من شمعة واحدة. أضاء ما يكفي من الشموع كي يستحقّ التكريم العالمي الفريد الذي حظي به.