أتعجب من أمر من يسمون أنفسهم بـ”المؤمنين الشيعة” أتباع الإسلام المحافظ والقيم التاريخية، فقد كان سكوتهم أمام مشاهد القمع العنيف والوحشي ضد المحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية أمر لايمكن تصديقه. فهم يشددون على أهمية مقولة “إنما الدين المعاملة”، ويرددون باستمرار عبارة النبي الأكرم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ويتحفوننا بعشرات الأحاديث والروايات الدينية التاريخية حول كيفية معاملة الآخر المختلف، ويحتجون على الممارسات القمعية ضد بعض المسلمين وبالذات ضد الفلسطينيين أمام آلة القمع الإسرائيلية، ويرفعون شعار الأخلاق الدينية في كل موقف ومناسبة، فهل الممارسات القمعية الوحشية من قبل “المؤمنين” الإيرانيين ضد المحتجين على نتائج الانتخابات هي من الأخلاق الدينية ومن مكارم الأخلاق؟ هل تلك الممارسات تختلف عن ممارسات مختلف الأنظمة القمعية حول العالم؟ هل سكوت “المؤمنين” يختلف عن سكوت البعثيين والعروبيين وغيرهم تجاه روايات ومشاهد القمع لأجهزة صدام حسين وغيرها من أجهزة عتاة الفاشية والاستبداد؟ كيف لم تؤثر مشاهد القمع والقتل وروايات الضرب والتعذيب والاعتقال وممارسات التضييق على الحريات في إيران في الضمير الديني لهؤلاء “المؤمنين”؟ وبعبارة أخرى: لماذا سكت هؤلاء؟
إن السبب الرئيسي وراء هذا السكوت هو اقتداء هؤلاء بالنموذج الديني التاريخي في التعامل مع المعارضة. فلا نجد في التاريخ الإسلامي تجارب تدل على أي نوع من “المداراة” من قبل الخلفاء والحكام وأنصارهم تجاه المعارضين لهم. وكان نفي المعارضين ومحاربتهم وقتلهم هي عناوين رئيسية للمرحلة الإسلامية التاريخية، وكانت تعتبر عناوين طبيعية ولم يحتج عليها أحد، لأنها كانت نابعة من الثقافة القديمة المهيمنة على حياة الإنسان المسلم، والتي تختلف عن الثقافة الحديثة التي تسيطر عليها الحرية والتنوع واحترام حقوق الإنسان. كذلك من الأسباب التي ساهمت في سكوت هؤلاء ما تؤكد عليه الآية الكريمة “أشداء على الكفار رحماء بينهم”. وقد أكد أكثر من رجل دين إيراني محافظ ردا على ما جرى بعد الانتخابات، أن معارضة المرشد الأعلى للإحتجاجات وتحذيره من استمرار تحرك المحتجين ثم تهييجه لعواطف أنصاره ببكائه في خطبة صلاة الجمعة التي سبقت أحداث يوم السبت الدامية التي قتل فيها 20 من الإيرانيين المسالمين، كان بمثابة الشرارة التي أججت “المؤمنين” ضد المعارضين والضوء الأخضر لوصف المحتجين بأعداء الدين المناهضين للجمهورية الإسلامية ولابد من مواجهتهم بشدة وقمعهم بكافة الأساليب دفاعا عن النظام الديني ونصرة للولي الفقيه. ومن الطبيعي في ظل هذه الثقافة الدينية المتشددة خروج أصوات إسلامية من البرلمان الإيراني تطالب بمحاكمة المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي بتهمة محاربة الله ورسوله وتقويض أسس الدولة الدينية. وسكوت “المؤمنين” أمام آلة القمع الإسلامية الإيرانية عرّض مصداقيتهم الدينية والأخلاقية لسؤال كبير: كيف وقفوا ضد قيم الجماهير المسالمة الساعية إلى الذود عن الحرية والدفاع عن شرعية الاحتجاجات السلمية؟
لقد أثبتت تجربة الإنتخابات الإيرانية أن “المؤمنين” اختاروا الدنيا وفضلوها على الآخرة رغم الكم الكبير من النصوص الدينية التي تحث على ترك الدنيا سعيا لكسب الآخرة. فقد كانت مواقف “المؤمنين” من الأحداث دليلا قاطعا على أن الأخلاق الدينية تأتي في مرتبة لاحقة (وقد لا تأتي) في تراتبية تديّنهم الفقهي. وانطلاقا من ذلك سقطت الأخلاق في اختبار هذا النوع من التديّن. فمن لا يساعده تديّنه في دعم أخلاقه وإنسانيته لابد أن يعيد النظر في نوع تديّنه، بل عليه أن يضع الكثير من علامات الاستفهام أمام الدين الفقهي الذي حثه على السكوت مقابل الفظائع التي حدثت باسم الدين. وكيف يمكن لهؤلاء “المؤمنين” أن يكونوا رسلا للأخلاق وللدفاع عن المظلومين وأن يشاركوا في مجالس دينية توضّح مظلومية الحسين بن علي بن أبي طالب وتفضح الظلم الذي وقع على آل بيت النبي الأكرم، فيما هم سكتوا عن الظلم الذي وقع على إخوانهم في إيران؟ ألا يعتير ذلك تناقضا يؤدي إلى سقوط قيمهم الأخلاقية والدينية والإنسانية؟ هل يستطيع أن يدّعي هؤلاء بأن فهمهم الديني يفضي إلى وصف الإسلام بأنه دين الإنسانية؟
لقد قال خطيب صلاة الجمعة في طهران حجة الإسلام أحمد خاتمي بأن الولي الفقيه في إيران “ليس قائدا سياسيا فحسب، بل هو قائد شرعي وحجة دينية، هو نائب الإمام المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر عند الشيعة)، ومعارضته هي بمثابة معارضة الإمام المهدي المنتظر”، مؤكدا بأن “من يضع أوامر الولي الفقيه تحت رجليه (يعارضها)، كأنه يضع أوامر الإمام المعصوم تحت رجليه. ومن يخالف قوانين الإمام المعصوم، كأنه يخالف قوانين الله”.. هل يمكن لهذا النوع من الثقافة الدينية أن تشيع التعايش، وتهضم الاختلاف والتنوع، وأن ترضى بأقل من إلغاء المخالف لرأي الولي الفقيه؟ هل يمكن أن يتحرك ضمير أنصار هذه الثقافة أمام آلة القمع والقتل المدافعة عن “حكومة الإمام المهدي المنتظر”؟ فكلام خطيب الجمعة يثبت بأن النظام الديني الحاكم في إيران وفق نظرية ولاية الفقيه المطلقة يشرّع لكل ما من شأنه الدفاع عن النظام ولو خالف ذلك المفاهيم الإنسانية وانتهك الأطر الأخلاقية المسيطرة على الثقافة العالمية في الوقت الراهن. وحينما تسيطر حكومة دينية مطلقة على مختلف جوانب الحياة، فذلك يعني أن الدين قد تحول إلى أداة للسيطرة والوصاية على شؤون الناس، ومن يخالف هذه السيطرة والوصاية كأنه يخالف الدين ويعارض أمر الله، ولابد من مواجهته بكافة الطرق والوسائل، التي هي في الواقع وسائل تقمع وتضرب وتقتل وتعذب باسم الله. فالحاكم بالحكومة الدينية هو ممثل الله على الأرض، ولابد أن يصار إلى طاعته المطلقة والتسليم لكل أوامره ونواهيه، لأن “ذلك انعكاس لطاعة الله والتسليم لأوامره ونواهيه”. و”المؤمنون” إنما كان سكوتهم وموافقتهم على ما جرى ضد الشعب الإيراني بعد الانتخابات الرئاسية، لأنهم، وفق فهمهم الديني، يعتبرون رأي الحاكم الديني أو الولي الفقيه أهم من أي ظرف سياسي واجتماعي واقتصادي وغيره. فما يأمر به الحاكم الديني لابد من إطاعته حتى لو أدى ذلك إلى انتهاكات ضد حقوق الإنسان. فطاعة الحاكم الديني هي طاعة الله، وشتان ما بين طاعة الله والرضوخ للمطالب الجماهيرية، وهو ما أسقط سكوت “المؤمنين” في فخ الأخلاق الإنسانية.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي