منذ تداخلت ثقافات العالم ببعضها البعض لم يتوقف العقل المحلي في شرقنا الاوسطي من سؤال الذات عن كيفية عمله وطرائق تفكيره. وانصب معظم جهده في بلاد الشام ومصر وشمال افريقيا نقدا لنظم الحكم،. وغاص في التاريخ بعضا من المثقفين أملا في بارقة امل وقارنوا حاضره بماضيه، وعرضوا بعضا من اقوال الصحابة ثم اقوال المحدثين في الغرب. ودرس البعض جوانب من شرعيته الحكم، وحمّلوا الغرب والاستعمار تبعات التخلف ومسؤولية احتجازنا في خرافات الجهل وحملوه المسؤولية عن مصائبنا. قليلون هم من تعرضوا لبنية العقل العربي وكيفية عمله، كان آخرهم السجال القوي بين د. محمد عابد الجابري الذي تقارب مع الاسلام من جهه ونقده له من جهة أخرين ورد المفكر الفذ “جورج طرابيشي” عليه في اربع كتب تحمل العناوين ” ” و”نظرية العقل” و”وحده العقل العربي الاسلامي ” و”إشكاليات العقل العربي ” و”العقل المستقيل في الاسلام”.
من اصعب الامور فهم معني العقل في الاسلام. فكثيرا ما جاء ذكر هذا الجهاز ضمن نصوص القرآن بالرغم من عدم التلميح او التصريح عن كيفيه عمله. فالنص القرآني في ذات الوقت الذي يطلب التصديق والايمان بالغيب لم يكن في حاجة لان يبرهن علي صحه مصدره او صحة ما جاء به من وقائع واحداث فإنه طالب المتحدث اليهم بان يعقلون!! لمجرد ورود مثيلات تلك الاحداث عند من اطلق عليهم أهل الكتاب. ولعل تعمد إهمال البرهان واعتبار ان وجود كتب سابقة وان هناك اهل كتاب كان متمشيا مع كيفية التفكير عن اهل ذلك الزمان.
فتعريف العقل يمثل تحديا للاسلام وللفكر العربي حيث يغيب معني التفكير ومعني التعقل وياتي بدلا منه التراث او الفقه أو قصص الاولون كبديل ويتم البرهنة علي صدقية الادعاء باستدعاء القصص من كتب الاولين. بل كثيرا ما يتم الخلط بين العاطفة والعقل او بين العقل والسلطة.
كان تعريف القدماء للشئ مرهونا بالحديث بما ليس هو، فيكفي ان تذكر النقيض حتي تتاكد هويه ما يجري تعريفه، وذلك لفقدانهم الدراية بما يتحدثون عنه ولاسباب موروثه من الاسلاف. وهنا ياتي الخلط والابهام والايهام والخطأ. وهذا النمط من التفكير راجع الي زمن التحريمات الطوطمية حيث يمتنع ذكر اسم الطوطم او المعبود لئلا تحل لعنته حيث كانت المعبودات في بدايتها هي كل قوي الشر اتقاءا منها. أما في الفلسفة اليونانية فالعقل هو الاله الذي لا وظيفه له الا بتعقل ذاته. اما في الاسلام فلم يات ذكر العقل كجهاز، فالنص افترض وجوده لدي البشر وافترض استخدامه قولا “افلا تعقلون”. أما الاله فوصف “ليس كمثله شئ”، وظيفته الوحيده ادارة الكون من خارجه لكونه العقل الكامل.
لم تظهر تعريفات حقيقة وصادقة للعقل الا بقدر انتاجه للمعرفة واكتسابه خبرات من واقع الحال وامور الدنيا. فكلمات مثل الوعي – الذكاء – الفهم – الحدس – الادراك – التعلم كلها من ادوات ووظائف العقل ورغم ذلك فلم ياتي ايا منها في نصوص الاسلام للتمييز بين المعارف المطلوب من المسلمين عقلنتها وبين ما ينبغي عليهم استبعاده. فان يكون العقل هو صانع للمعرفة وصنيعتها في آن واحد فان العلاقة الجدلية بينهما لا تعني سوي أن معارفنا ستتتجدد وعقولنا ستتغير لنصبح ارقي مما نحن عليه حاليا. ذلك هو الجدل ومعني صراع النفي في تناقضاته. فلا المعلومة القديمة ستعود صالحة ولا العقل القديم سيصبح متواجدا ليصدق عليها أو يعيد انتاجها او احيائها. فما هو ذلك العقل الثابت في الاسلام والمنصوص عليه للتعقل في القرآن؟
كانت الاسطورة من اولي منجزات العقل البشري تاريخيا ولان هناك علاقة عضوية وجدلية في آن واحد في كيفية صناعة العقل للمعرفة وصناعة المعرفة المعلوماتية للعقل فان العقل الحديث يمثل نقلة نوعية في التزامه بالادوات الجديدة بعد ان كان غير ملتزم، قديما، بضرورات الواقع ومدي توافقها مع قوانينه. فما اكثر الخرافات التي صدقها الاولون وقامت عليها أخلاق وقيم وأديان مجتمعاتهم. وعليه اصبح الهم الاول في عصر المعلومات الحالي هو البحث في تغيرات العقل من اجل معرفة ما لم يدركه من قبل. ففي الاساطير القديمة تجري الاحداث بما لا يتفق وقوانين الواقع ولهذا السبب بالذات تكلس العقل البشري طويلا ولم يعد قادرا علي الحركة بالبشر الي الامام. كانت النشوة والامتاع من أهداف العقل القديم كلما أعيد سرد الاساطير وتلاوة ترانيمها واياتها. الان تتم النشوة والامتاع كلما اخرجنا احشاء المادة وقوانينها الداخلية التي كانت خافية علينا وليس مجرد ترديد ما كان معلوما في معارفنا بالماضي.
بعد ادراك كيف اصبحت المعرفة المعلوماتية هي عقال العقل ومفجرته وصانعته في آن واحد، فان الاعتقاد بان الكتب السماوية وكأنها فتحا مبينا وكشفا عظيما للانسانية، يمثل خصومة وقطيعة بيننا وبين الحاضر والمستقبل. ولان الكتب هذه لم تؤصل لما هو العقل والتعقل وكيفية اداؤه لوظائفه وباي منهجية يعمل فقد أعيد ذكر وتجديد ما كان معلوما قبل الاديان الي ما بعد الاديان. وبالرغم من هذا فهو ينكر الامر ويتهم السامعين لنصوص القرآن دون الايمان بها حسب ما جاء في سورة الانعام الايه 25 “وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ”. وهنا ياتي خلطا واضحا بين القلب والفقه الذي هو من منتجات العقل. لكن الاخطر هو ان التعقل من عدمه مشروط بما يصبه الله من غضب علي البعض وليس من البرهان الداخلي القبل للتصحيح.
فقه الشئ، إسلاميا، هو عقلنته من اجل تصديقة استعدادا للايمان به، ففي سورة التوبة تقول الايه 87 “رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ”. طالب القرآن وهو الكتاب السائد حاليا عند المسلمين بالتعقل والحض علي العقل لكنه لم ينهي مقولاته باقوال التجريب او الاستقراء او الاستنباط المنطقي رغم قوله احيانا ” أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ” و “لعلكم تعقلون”. وجاء في سورة البقرة “فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” وهو مثال واضح كيف كان القدماء يعرفون الشئ بنقيضه حيث تصبح المعجزة (بافتراض حدوثها) كفيلة بان يؤمن مشاهديها بديلا عن العقل.
وقال ايضا “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ”. و “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” و “لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”. وهي أيات كاشفة لمعني العقل في الاسلام والمطلوب من العرب تبنيه. فذكر العرب كدليل للعقلنه إذن كفيل بان يطلق العرب علي باقي الشعوب بالعجم وبالتالي بعدم التعقل!!!
وفي سورة الصافات وبين سردين متتاليين لقصتي لوط ويونس جاء القول “أَفَلَا تَعْقِلُونَ” في الايه 138 للتوكيد علي صحتهما باعتبار ان العقل ملزم بتصديق مثل هذه الاحداث.
تلك نماذج التعقل والعقلانية في القرآن واصبحت مثل هذه المعلومات التي لا تتفق وقوانين الواقع الوارده صانعة للعقل الاسلامي حتي الزمن الحديث. رغم ان الزمن الحالي اعاد تشكيل العقل بعد ان اكتشف امراضه الداخلية التي سببت له عجزا امتد معه لالاف السنين. حذرنا فرانسيس بيكون منها، وهو اول من تأسست عليه العقلانية الحديثة، فقال ان اوهام العقل اربعة:
• أوهام القبيلة والمقصود بها العينة البشرية المتحدثة والمنتجة لنصوص جعلت تعميمها فكرا وسيادتها دينا ومصداقيتها قدسا من الاقداس. من اوهام القبيلة التعميم وافتراض انها تنطبق علي
الجميع دون النظر للفروق حيث تصبح التطابقات ملزمة والنزاهه علي المحك.
• أوهام الكهف والمقصود بها البيئة الثقافية والحضارية التي نشأ بها الفرد المنتج والمستهلك للنصوص المعرفية المعلوماتية. ومدي تاثرها بالموروث الاجتماعي الثقافي الاقدم تاريخيا.
• أوهام المسرح ويقصد بها الاخطاء الناتجة عن تاثير المفكرين القدامي ورؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن. وبالتالي فان اعجاب المتلقين في المسرح لما يقدم لهم علي خشبته وبراعة النصوص ومدي اعجازها يجعل العقل عاجزا ومشلولا عن فحص مدي الصحة لما يلقي عليه من اقوال.
• أوهام السوق وهي الناجمة عن الخلط اللغوي وسؤ استخدام اللغة وهي اكثر ما ينبغي تجنبه حيث ياتي ذكر اشياء لا وجود لها بهدف الترغيب او الترهيب لان الفيصل في الحق – حسب تاكيدات بيكون – هي مدي مطابقة الواقع بحقائقه لما يقال.
قام بيكون بعملية تطير جراحي لجهاز التفكير البشري. لكن مدي تعارض العقل الحديث مع العقل الاسلامي الموروث تؤكد مدي حاجتنا لعمليات جراحية عميقة، فأهم انجاز حققته الفلسفة من بعده كان التيار التحليلي الذي وفي نهاية المطاف اخذ اللغة حقلا للبحث لاعادة تنقيتها من كل ما لحق بها من زيف. كان مشوار التحليل طويلا بدأ بالنقطة والخط االمستقيم عند ديكارت الي حركة الاجسام عند نيوتن الي تركيب بنية رياضية للموجات عند ماكسويل الي البيولوجيا نهاية بالجينوم وتحليله ثم اعاده تركيبه استهلالا لخلق بشر او كائنات حية في المستقبل. واصبح التحليل والتفكيك اللغوي من اهم العلوم الحديثة لفهم كيف يتعامل العقل مع امور الحياه. فامراض اللغة اضافة للامراض الاربعة السابقة كلها تملأ الثقافة العربية وتعوق العقل المشرقي من الانطلاق.
لم يغازل بيكون الغرائز والشهوات ولم يخلط بين القلب والعقل اثناء تشكيله للجهاز العقلي الجديد فوضع العنوان ” الاورجانون الجديد” علي غلاف كتابه كجزء من عمل ضخم اسماه “الاحياء العظيم”. الاسم يحيلنا مباشرة الي ابو حامد الغزالي عندنا في كتابه “إحياء علوم الدين” لكنه لم يذكر العقل وكأن الدين كفيل بامور الدنيا وأمور العقل مثلما اعتقد المسلمون الاوائل أو ان الدين هو بديل للعقل. وتحصنت المعجزة بالاسطورة لان الاسطورة تجري علي وتيرة لا عقلانية. فاقوال العقلانية في القرآن تصبح مدعاه لاعاده فهم كيف كان يفكر سلف العرب ومن رضي الله عنهم في جزيرتهم وما نقلوه الي باقي الامصار باعتباره ” الاورجانون العربي الجديد”.وهل كان لديهم عقلاء قالوا بانها ليست باكثر من اساطير الاولين!!
إختزل الاسلام العقل والتعقل في تصديق الاوائل لكتب سماوية سابقة عليه (لم تعد موجوده لانه انكرها) وانكار قصص الاولين باعتبارها اساطير ثم تثبيت نفس القصص وقصص أخري مشابهه في كتب يدعي المسلمون تبديلها وتحريفها. فالرجل الاول في الاسلام هو الصديق ابو بكر. ذلك هو الاورجانون العربي والذي يتم توزيعه مجانا عبر الفضائيات والصحف وجميع وسائل الاعلام لنناطح او نصارع عقول العالم الحديثة من حولنا التي باتت علي وشك خلق كائنات حية في مختبراتها.
كان عقل الصحابة عربيا جاهليا قبل الاسلام، وبعد دخولهم فيه اصبحت هناك وحده بين العقلين عربيا واسلاميا حسب عنوان الكتاب الثاني لجورج طرابيشي. فاصبحت الاستقالة هي من النهايات الحتمية لذلك العقل حسب الكتاب الاخير للمفكر الكبير “طرابيشي”.
elbadry1944@gmail.com
• القاهرة
خلع العتيق ولبس الجديد
فى سياق المقالة يؤكد حضرة الكاتب المحترم مدي حاجتنا لعمليات جراحية عميقة لتطهير التفكير البشرى (الاسلامى العربى السلفى بالطبع). هنا تشبيه للعقل بجسم مادى به داء عضال ولكن فى الحقيقة هناك اختلاف قد تؤدى المعرفة به الى اكتشاف طريق أسهل للنهوض بالعقل بدون العمليات الجراحية العميقة. من البديهى أن لكل منا جسم واحد اذا مرض فلا مفر من علاجه. ولكن العقل يتبع الفكر. فاذا كان الفكر سقيم فبدلا من علاجه بالجراحة، نستطيع بسهولة طرح وترك السقيم، وتجديد العقل كلياً بتجديد الذهن، أخلع الثوب البالى القديم بكل ثقوبه، وأرتدى الثوب المناسب الجديد بكل رونقه.
لماذا رضي الله عنهم؟ لم يكن إيمان الصحابة رضى الله عنهم كلهلم نابعا من العقل ولكن هناك من الصحابة من آمن بالاسلام عن طريق القلب ومن آمن عن طريق العقل فمن الذين آمنوا بلاسلام عن طريق العقل على رضى الله عنه فقد سئل يوما : كيف عرفت الله يامام فقال : البعرة تدل على البعير أفلا تدل أرضا ذات فجاج وسموات ذات أفلاك على الواحد القهار . وهنا نجد كلمة تدل التى تدل على استخدام الامام على رضى الله عنه للاستدلال العقلى فى التعرف على الله هذا الاستدلال الذى أشاد به ديكارت والذى بنى منهجه العقلانى عليه وليس على الاستقراء… قراءة المزيد ..