إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كما أسلفت في
المقالة السابقة “من هو النبيّ الأمّي؟“، فقد بذل محمّد وأصحابه جهودًا كبيرة في استعطاف واستجداء أهل الكتاب الذين يقطنون جزيرة العرب بعامّة، واليهود منهم بصورة خاصّة، لكي يعترفوا به بوصفه “النبيّ الأمّي” – أي المسيح المنتظر – الذي تتحدّث عنه كتبهم المقدّسة، كالتوراة والإنجيل. لقد حاول في البداية استمالة قلوب أهل الكتاب بصورة سلميّة، غير أنّ هؤلاء لم يرغبوا في ترك معتقداتهم وكتبهم والإنضمام إلى الرسالة الجديدة التي تدّعي أنها جاءت تكملة لتلك الرسالات القديمة، رسالات أنبياء بني إسرائيل في التوراة ورسالة عيسى في الإنجيل. فما عدا قلّة من بين أهل الكتاب الذين قبلوا برسالة محمّد وبايعوا رسالته، فقد باءت محاولات محمّد وأصحابه بالفشل لدى الغالبيّة العظمى. ولم تشفع له حقيقة كونه يتّجه بالصّلاة نحو الصخرة وبيت المقدس التي هي “قبلة اليهود”، كما يقول هو نفسه عنها، مثلما أشرت في مقالة سابقة أيضًا.
فها هم رؤساء مكّة يذهبون لاستشارة اليهود
في أمر دعوى محمّد أنّه النبيّ الأمّي ودعوى كونه مُبَشّرًا به في كتبهم، بينما اليهود ينكرون أمام رؤساء مكّة هذه الدّعاوى جملة وتفصيلاً، كما يروي ابن عبّاس: “أنّ رؤساء مكة أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا محمّد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنّهم لا يعرفونك.” (تفسير البغوي: ج 2، 312)، أو برواية أخرى: “فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم.” (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 443، وانظر أيضًا: أسباب النزول للواحدي: ج 1، 66؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 257).
وها هم اليهود يقولون ذلك صراحة لمحمّد ذاته: “ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم: إني والله أعلمُ إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك.” (تفسير الطبري: ج 9، 409؛ تفسير ابن كثير: ج 2، 476؛ تفسير البغوي: ج 2، 312؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 750). غير أنّ محمّدًا لا يكتفي بذلك، بل يذهب بنفسه في أحد أيّام الأعياد اليهوديّة إلى كنيس اليهود باحثًا عن دعم وإقرار بدعواه دون جدوى: “عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلعم وأنا معه، حتّى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلعم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً يشهدون إنه لا إله إلا هو، وأنّ محمّدًا رسول الله، يحبطُ اللهُ عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه. قال، فأسكتوا فما أجابَه منهم أحدٌ، ثم ثلث فلم يجبه أحد، فانصرف وأنا معه.” (تفسير الطبري: ج 22، 107؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، 9)، وفي رواية أخرى، قبل أن ينصرف عنهم قال: “أبَيْتُم، فوالله لأنا الحاشرُ وأنا العاقبُ وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم! ثم انصرف و أنا معه…” (المعجم الكبير للطبراني: ج 12، 409؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، 469؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 23، 424؛ صحيح السيرة للألباني: ج 1، 80-81).
وهكذا، وعلى ما يبدو،
فقد كان محمّد يحاول البحث عن أيّ بصيص أمل لاعتراف يهودي به، أو عن أيّ شكل من أشكال التّصديق لرسالته الجديدة. ولقد بلغ به الأمر أنّه كان يتوجّه لأيّ شخص يمرّ به ويسأله طالبًا منه هذا الاعتراف التوراتي بنبوّته، ومثال على ذلك ما تذكره الرّواية التّالية: “عن الفلتان بن عاصم قال: كنت جالسًا عند النبي صلعم، إذ شَخَصَ بَصرُه إلى رجل، فإذا هو يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي صلعم يكلّمه وهو يقول: يا رسول الله، فقال النبي صلعم: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا. قال رسول الله صلعم: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم. قال: أتقرأ الإنجيل؟ قال: نعم. قال: والقرآن ولو تشاء قرأته. فقال رسول الله صلعم: فيما تقرأ التوراة والإنجيل، أتجدني نبيا؟ قال: إنّا نجدُ نعتَك ومخرجَك، فلمّا خرجتَ رجَوْنا أنْ تكونَ فينا، فلمّا رأيناكَ، عرفنا أنّكَ لَسْتَ به.” (السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، 323؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، 415).
ليس هذا فحسب، بل إنّ محمّدًا وأصحابه يستنجدون ببعض اليهود، الذين كانوا قد بايعوه من قبل، بغية إقناع بني قومهم الآخرين، وذلك من خلال تقديم الوعود لليهود ببناء الهيكل اليهودي في بيت المقدس، كما نستنتج من الراوية التالية: “عن محمد بن كعب القرظي قال: أوحى الله إلى يعقوب أنّي أبعث من ذرّيتك مُلوكًا وأنبياء حتّى أبعثَ النبي الحرمي الذي تبني أمّته هيكلَ بيت المقدس وهو خاتم الأنبياء واسمه أحمد. (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 163؛ سبل الهدى والرشاد للصاالحي الشامي: ج 1، 99).
والحقيقة أنّ اليهود ما كانوا ليؤمنوا بمحمّد
بوصفه النبيّ الأمّي – أي المسيح – الذي ينتظرون قدومه في آخر الزّمان، إذ أنّ هذا المسيح المنتظر، وبحسب ما تذكره التّوراة وكما أشرنا من قبل، يجب أن يكون يهوديًّا ومن نسل داود، فما بالُكُم الآن بمحمّد العربيّ النّسب. بل وأكثر من ذلك، فربّما حريّ بنا أن نذكر إنّه حتّى قبل قرون ستّة من ظهور محمّد على السّاحة في جزيرة العرب، كان قد ظهر شخص آخر، وهو شخص ينتسب إلى اليهود على وجه التّحديد، ومن نسل داود أبًا عن جد واسمه يسوع، حيث ادّعى هذا النبوّة أيضًا وأنّه المسيح الذي بشّرت به التّوراة، غير أنّ اليهود لم يؤمنوا به كما هو معلوم.
فإذا كانت هذه هي الحال مع يسوع، اليهودي المولد والنّسب، فما بالكم الآن بشخص عربيّ ليس يهوديًّا وليس من نسل داود، يجيء الآن ويقول أمورًا مشابهة، فهل سيؤمن به اليهود خلافًا لمعتقداتهم؟ ولهذا السّبب قال اليهود فيما يتعلّق بنبوّة محمّد: “إنّما كانت الرُّسُل من بني إسرائيل، فما بالُ هذا من بني إسماعيل؟” (تفسير الطبري: ج 2، 342؛ أسباب النزول للواحدي: ج 1، 8؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 284)، أي أنّ الرّسول الّذي ينتظره اليهود ليس من العرب بأيّ حال. وهذا التصوُّر هو ما تؤكّده رواية ابن عبّاس على لسان أحد بني النّضير: “فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفُه، وما هو بالّذي كُنّا نَذْكُر لكم.” (السيرة لابن هشام: ج 1، 547؛ تفسير الطبري: ج 2، 333؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 326؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 3، 490؛ أسباب النزول للسيوطي: ج 1، 11)، إذ أنّ الّذي كان يذكره اليهود للعرب في السّابق، على ما يبدو، إنّما هو المسيح اليهودي الّذي من نسل داود.
وهكذا، لم يقتنع اليهود بالرسالة
الجديدة، حتّى بعد أن قال لهم محمّد إنّه يؤمن بما أُنزل عليهم وعلى آبائهم: “أؤمن باللّه وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى… فلمّا ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به”، (تفسير الطّبري: ج 4 ص 631؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 5، 121؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 382؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 108؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 335)، بل وأكثر من ذلك، فقد أضافوا قائلين: “والله ما نعلمُ أهلَ دين أقلّ حظًّا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًّا من دينكم.” (تفسير الرّازي: ج 6، 97؛ تفسير النيسابوري: ج 3، 183؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 386).
ولهذا السّبب بالذّات أيضًا، فقد وبّخ اليهودُ عبدَ الله بن سلام اليهودي بعد أن أسلم: “وقال حيي بن أخطب وكعب بن أسد وأبو رافع وأشيع وشمويل بن زيد، لعبد الله بن سلام حين أسلم: ما تكونُ النبوّةُ في العرب، ولكنّ صاحبَكَ مَلِكٌ…” (سيرة ابن هشام: ج 1، 568؛ الروض الأنف: ج 2، 430؛ التاريخ الكبير للبخاري: ج 1، 193، 225؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 288).
تحويل القبلة:
وهكذا، وبعد أنْ لم ينفع محمّدًا أنّه يتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، “قبلة اليهود”، بهدف استمالة قلوبهم لرسالته، كما أسلفت من قبل، وبعد أن رفض اليهود دعوته لأنّها لا تتمشّى مع ما يؤمنون هم به، إذ أنّ التوجّه فقط بالصّلاة إلى قبلة اليهود لا يكفي: “قالت اليهود: يُخالفنا محمّد ويتبع قبلتنا … والله ما دَرَى محمّد وأصحابُه أينَ قِبْلتُهم حتّى هَدَيْناهم. فكرهَ ذلك النبي صلعم ورفع وجهه إلى السماء…”، كما رُوي عن مجاهد (تفسير الطبري: ج 2، 22). وبعد أن يئس من إمكانية قبول اليهود وعامّة أهل الكتاب دعوته إلى قبوله بوصفه “المسيح المنتظر” الجديد، فقد بدأ يفكّر في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكّة، كما تكشفه لنا الرواية التّالية: “وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجّه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدْعَى لهم، فلما تبينَ عنادُهم وأَيِسَ منهم، أحبّ أن يُحَوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء.” (تفسير القرطبي: ج 2، 150). ولذلك أيضًا فقد رُوي عنه في الحديث النبوي أنّه بدأ يرغب في صرف القبلة عن “قبلة اليهود”، فقال: “وددتُ أنّ ربّي صَرَفَني عن قبلة اليهود إلى غيرها” (طبقات ابن سعد: ج 1، 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126).
على ما يبدو فقد رغب محمّد في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بسبب ردود فعل اليهود، كما يظهر في الرواية الإسلامية: “كرهَ قبلةَ بيت المقدس من أجل أنّ اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فى ديننا! … والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلعم.” (تفسير الطبري: ج 2 ص 22؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18)، أو برواية الرازي يصف هذه الحال التي وجد الرسول نفسه فيها بالمحنة، بسبب ما يقوله اليهود: “إنه يخالفنا ثم إنّه يتبع قبلتنا، ولولا نحن لم يدر أين يستقبل، فعند ذلك كرهَ أن يتوجّه إلى قبلتهم.” (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا بدأ الرسول يجد نفسه في حيرة من أمره: “وكان رسول الله صلعم يقعُ في رَوْعِه ويتوقعُ من ربّه أن يُحوّله إلى الكعبة.” (تفسير البيضاوي: ج 1 ص 42؛ تفسير أبي السعود: ج 1 ص 174)، فأخذ يبحث عن قبلة أخرى مختلفة عن قبلة اليهود: “واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة علي بيت المقدس على قولين: أحدهما أنها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني لمخالفة اليهود.” (زاد المسير لابن الجوزي: ج 1، 156؛تفسير البيضاوي: ج 1، 42؛ كشف المشكل لابن الجوزي: ج 1، 462)، أو لأنّها “أقدم القبلتين وأدْعَى للعرب إلى الإيمان.” (تفسير البيضاوي: ج 1، 42)، أو لأنّها “مفخرتهم ومزارهم ومطافهم” (تفسير النيسابوري: ج 1، 358؛ تفسير أبي السعود: ج 1، 174).
ومثلما كان الهدف من استقبال بيت المقدس في البداية هو استمالة اليهود في الأساس، فها هو يحوّلها الآن إلى الكعبة لأغراض الاستمالة أيضًا. لقد رغب محمّد في تحويل القبلة إلى الكعبة، كما يصرّح الرّازي، لأنّه “كان يُقدّر أن يصيرَ ذلك سببًا لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام.” (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا، وبعد مضيّ ما يقارب سنة ونصف على هجرة الرسول إلى المدينة، تمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما يجمع المفسّرون فإنّ هذا التّحويل يُعتبر أوّل نسخ في القرآن: “أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة…” (تفسير الطبري: ج 2، 3 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 205؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370)، أو أنّ هذا التّحويل، كما يذكر ابن كثير، هو “أوّل نَسْخٍ وقعَ في الإسلام”، على الإطلاق (سيرة ابن كثير: ج 2، 372).
بلبلة المصلّين في تحويل القبلة:
لقد أثار صرف القبلة عن بيت المقدس وتحويلها إلى الكعبة بلبلة في صفوف المصلّين، كما تشير الروايات: “عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلعم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلّوا ركعة، فنادى ألا إنّ القبلة قد حُوّلتْ، فمالوا كما هم نحو القبلة” (صحيح مسلم: رقم 527؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 3، 284؛ تفسير الطبري: ج 3، 135؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 2، 476؛ مستخرج أبي عوانة الإسفراييني: ج 2، 159). أو كما أخبرت نويلة بنت مسلم عن لحظة التّحوُّل إلى الكعبة، قالت: “صلّينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاسْتَقْبَلْنا مسجدَ إيلياء فصلّينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلعم قد استقبلَ البيت الحرام، فتحوّل النّساءُ مكانَ الرّجال، والرّجالُ مكانَ النّساء. فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيتَ الحرام” (تفسير ابن كثير: ج 1، 263؛ وانظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 65؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 1، 126؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 18، 220؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 54).
ليس هذا فحسب، بل كان هنالك بين المسلمين من أثار تساؤلات وجيهة بشأن أولئك الذين صلّوا من قبل نحو بيت المقدس وقد قضوا نحبهم قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فماذا يكون بشأن هؤلاء: “وقال المسلمون: ليتَ شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يُصلّون قبلَ بيت المقدس! هل تَقبّلَ اللهُ منّا ومنهم، أو لا؟ ” (تفسير الطبري: ج 3، 157).
وعندما صُرفت القبلة من بيت المقدس
إلى الكعبة، كان اليهود يقولون له: “يا محمّد، ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثَبتَّ على قبلتنا لكُنّا نرجو أن تكونَ صاحبَنا الذي ننتظره؟” (تفسير البغوي: ج 1، 163؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 422؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 261؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 364؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 101)، أو أنّهم عيّروا المسلمين بالقول: “ليستْ لهم قبلة معلومة، فتارة يستقبلون هكذا، وتارة هكذا.” (تفسير البغوي: 1، 139؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 194).
حتّى إنّ مجموعة من رجالهم جاءت إلى محمّد تطلب منه أن يرجع إلى قبلة بيت المقدس وتعده بأنهم سيتبعونه إنْ فعل ذلك: “قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة… أتى رسولَ الله صلعم رفاعةُ بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمّد ما ولاّكَ عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك…” (سيرة ابن هشام: ج 1، 549؛ تفسير الطبري: ج 3، 132؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، 477؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 344).
لقد استاء بعض اليهود جدًّا من تحويل القبلة إلى الكعبة بدل بيت المقدس والتوجّه بالصّلاة نحو قبلة أخرى غير قبلتهم: “لما صُرفت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم.” (تفسير النيسابوري: ج 2، 285؛ أسباب نزول القرآن للواحدي: ج 1، 73)، إذ أنّ محمّدًا قد أوشكَ أن يدخلَ في دين اليهود، كما قال المشركون من أهل مكّة لليهود بعد تحويل القبلة: “تُحُيّرَ على محمّد دينُه، فتوجّهَ بقبلته إليكم، وعلمَ أنّكم كُنتم أهْدَى منه، ويوشكُ أنْ يدخلَ في دينكم!” (تفسير الطبري: ج 3، 158؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 402؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 359).
لهذا السّبب، وبعد تحويل القبلة
من بيت المقدس فقد أقدم بعض اليهود، الذين كانوا أسلموا من قبل، على ترك الإسلام وعادوا إلى اليهوديّة، كما تُخبرنا الرواية التالية: “إن القبلة لمّا حُوّلت ارتدّ قومٌ من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمّد إلى دين آبائه” (تفسير البغوي: ج 1، 160؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 221).
خلاصة القول، قد يكون رفضُ أهل الكتاب بصورة عامّة واليهود على وجه التّحديد قبول رسالة محمّد بوصفه المسيح التوراتي المنتظر في ظهوره الجديد، وبالمصطلح الإسلامي بوصفه “النبيّ الأمّي”، هو نقطة التحوّل في التاريخ الإسلامي من مرحلة التقرُّب والتّألُّف لليهود بواسطة التوجّه بالصلاة نحو قبلتهم، إلى مرحلة العداء الشامل، وذلك على غرار ما حصل قبل ستّة قرون بين النصرانية واليهوديّة من عدم اعتراف اليهود برسالة يسوع. وقد أفضى هذا العداء، في نهاية المطاف، إلى قتل وتهجير أهل الكتاب بعامّة واليهود بخاصّة من جزيرة العرب. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق.
***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى ما آل إليه مصير اليهود في جزيرة العرب.
***
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: “هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟”
المقالة الثانية: “لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟”
المقالة الثالثة: “لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟”
المقالة الرابعة: “من هو النّبي الأمّي؟ ”
المقالة الخامسة: “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟”
المقالة السادسة: “المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب”
المقالة السابعة: “إكسودوس بني النضير”
المقالة الثامنة: “محرقة بني قريظة 1”
المقالة التاسعة “محرقة بني قريظة 2”
المقالة العاشرة: “ماذا جرى مع يهود خيبر؟”
المقالة الحادية عشرة: “إجلاء اليهود من جزيرة العرب”
نشرت هذه المقالة في “الشفاف” في Apr 25, 2009.
لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟لا يا استاذ هادي. قرأت كل السلسلة التي ينشرها الاستاذ سلمان ولم اجد ما اتهمته به من انتقاصه للدور العظيم للنبي. ان اهمية هذه السلسلة انها مدعومة بالمصادر الاسلامية المعتبرة كالسيرة النبوية وعيون التفاسير وكتب التاريخ التي كتبها نخبة علماء المسلمين عبر القرون الخالية. كل ما يقصده الاستاذ سلمان، ان صح حدسي، هو ان نقرأ تاريخنا قراءة عقلانية واقعية ونتخلى عن القراءة العاطفية او عن التفسير الوحيد الذي فرضته علينا الحكومات التي حكمتنا منذ اكثر من اربعة عشر قرنا بمساعدة “علماء السلاطين” اقصد العلماء الذين نذروا حياتهم لخدمة السلطان او الخليفة او الملك… قراءة المزيد ..
لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟الغريب انك تتغاضى عن ان الاميه هي صفة اطلقها اليهود ومن ثم المسيحين على كافة الاقوام التي لا تنتسب وتتبع سلالة داوود او بني اسرائيل وتصر على انه تزلف وبنفس الاصرار لا تريد ان تفسر ان بقاء محمد على قبلة بيت المقدس هوليس تزلفا لليهود والمسيحين وضعفا امامهم وانما استمرارا طبيعيا للسائد في ثقافة القوم ,ثم انه غيّر قبلته بعد ان اكتفى وامتلئ و اصبح له باع كبير في الجزيره العربيه فاراد ان يؤكد هويته و ذاته ويبدع ثقافة لها شأن مستقل كبير ..كانك تصر على انتقاص الدور العظيم للنبي الرسول العربي لمحمد… قراءة المزيد ..