منذ توقفت مفاوضات الكويت، طرأ جمود على الوضع اليمني، وهو وضع كان في الاصل جامدا. شكلت مفاوضات الكويت فرصة، بل بصيص امل، للتوصل الى خطوط عريضة يمكن ان تؤدي الى مخرج او تسوية ما في مرحلة معيّنة تنضج فيها الظروف، وذلك في حال وجد الطرفان ان لكلّ منهما مصلحة في تجاوز الوضع الراهن.
في ظل استمرار موازين القوى القائمة حاليا، يصعب التكهن بإمكان ان يتزحزح كل طرف من الطرفين عن موقفه. هناك طرف “الشرعية” ممثلة بالرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي ونائبه الفريق علي محسن صالح ورئيس الوزراء احمد بن دغر من جهة. وهناك الحلف القائم بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح والحوثيين (انصار الله) من جهة أخرى.
لكلّ من الطرفين نقاط ضعف خاصة به. لكنّ نقاط الضعف هذه لا تحول دون تمسّك كلّ من الطرفين بمواقفه انطلاقا من اعتقاد ثابت لدى كلّ منهما بانّ لديه نقاط قوّة ايضا. في طليعة نقاط القوّة التي يتسلّح بها عبد ربّه منصور ورقة “الشرعية” التي لا غنى عنها للتحالف العربي الذي يقاوم سيطرة ايران على اليمن ويتصدّى له.
في المقابل، يعتقد علي عبدالله صالح و”انصار الله” ان قوتهما تكمن في ان لديهما خيارا يتمثل في القدرة على الاحتفاظ بصنعاء والمناطق المحيطة بها، بما في ذلك الميناء الاستراتيجي على البحر الأحمر، أي ميناء “الحُدَيدة”. تحت شعار المحافظة على الوحدة اليمنية، يعمل هذا الطرف على السير في عملية التقسيم لليمن. تركيزه الواضح على صنعاء وعلى وجود له في “تَعِز”. ما لا بدّ من الاعتراف به ان لا تغيير طرأ على “تعز” منذ اشهر عدّة على الرغم من حصول اختراقات لقوات “الشرعية” في احياء ومناطق معيّنة. كذلك، لا يمكن الحديث عن تبدل كبير في منطقة “نهم” على الرغم من تقدّم لقوات “الشرعية” في بعض المحاور المعيّنة.
كلّما مرّ يوم يتبيّن انّ الحصار يضيق على صنعاء ولكن من دون ما يشير الى انّه سيكون في استطاعة “الشرعية” العودة اليها يوما من دون اتفاق سياسي. لنفترض ان عبد ربّه منصور عاد الى صنعاء غدا. ما الذي سيفعل في اليوم التالي لعودته؟ الجواب ان ليس في استطاعة الرئيس الانتقالي العمل انطلاقا من صنعاء والبقاء فيها. هذا عائد الى سبب في غاية البساطة. لا يمتلك الرئيس الانتقالي أي “شرعية” في صنعاء. لم يستطع حتّى الإقامة في عدن، هو الآتي من الجنوب، من محافظة ابين تحديدا، فكيف سيتمكن من الإقامة في العاصمة التي هي في الأصل عاصمة الشمال؟
صحيح انّه لا يمكن تجاهل ان عبد ربه منصور حقق ما لم يستطع أي سياسي جنوبي تحقيقه في الماضي، أي تعميق الشرخ بين الشماليين، بين علي عبدالله صالح والحوثيين من جهة وخصومهم من جهة أخرى، لكن الصحيح أيضا انّ هذا الشرخ لا يسمح له بالاقامة في صنعاء، اقلّه في المدى المنظور.
هناك تخبط ليس بعده تخبّط في اليمن. ينسحب هذا التخبط على كلّ القوى السياسية من دون استثناء. لا رؤية سياسية لدى علي عبدالله صالح والحوثيين غير خيار قطاع غزّة الذي اقامت فيه “حماس” امارة إسلامية على الطريقة الطالبانية منذ منتصف العام 2007. هناك مصلحة لدى إسرائيل في بقاء هذا الخيار حيّا يرزق. ولذلك ما زال الاخوان المسلمون يحكمون غزّة منذ تسع سنوات. لدى إسرائيل، مثلها مثل “حماس”، مصلحة في بقاء الحصار على غزّة الى ما لا نهاية. كذلك لديها مصلحة في بقاء الشرخ بين القطاع والضفّة الغربية، خصوصا انّ همها يبدو محصورا في خلق واقع جديد على الأرض في الضفّة عبر سياسة الاستيطان.
هل يكفي الدعم الايراني لعلي عبدالله صالح والحوثيين كي يصبح في الإمكان الكلام عن خيار غزّة لدى طرفي هذا الحلف اليمني القديم ـ الجديد؟
تكمن مشكلة هذا الحلف مع خيار غزّة في انّه قد لا يكون خيارا قابلا للحياة في اليمن، خصوصا في ظلّ الحصار البحري والجوي والبرّي المضروب على صنعاء ومناطق أخرى يسيطر هذا الحلف عليها. وكما يقول رجل يعرف جيدا في الوضع اليمني: “بعد تحرير الجنوب كاملا وتحرير مأرب والجوف، اصبح طموح الحوثي الى حكم اليمن كلّه اقرب الى ان يكون وهما. انهم (الحوثيون) يقاتلون في تعز والبيضاء ويحتفظون بالحديدة. هذا ارث سياسي إمامي (نسبة الى العهد الامامي)، عندما كان مصدر الدخل لدى الدولة من هذه المناطق. جعلهم غباؤهم يتمسكون بهذا الإرث ويتركون مصدر الثروة في أيامنا هذه، وهو البترول والغاز والمصافي والموانئ وراحوا يبحثون عن الزكاة والجباية من رعية الامام في إب وتعز”.
لا مشروع سياسيا او اقتصاديا قابلا للحياة لدى علي عبدالله صالح والحوثيين في الوقت الراهن، خصوصا بعد انتقال الصراع السياسي والعسكري الى داخل صنعاء ابتداء من العام 2011، وبعد سيطرة الحوثيين سيطرة كاملة على العاصمة في الواحد والعشرين من أيلول ـ سبتمبر 2014. لذلك حصل تراجع على كلّ المستويات لدى هذا الحلف غير الطبيعي بين طرفين الاوّل أيديولوجي والآخر براغماتي. حصل التراجع بمجرّد بدء “عاصفة الحزم”. هل يستطيع هذا الحلف الخروج من المأزق الذي ادخل اليمن، كما ادخل نفسه فيه؟
المؤسف ان لا شيء يمكن ان يحصل في ظلّ موازين القوى القائمة. لا يمكن للحوثي اخراج سلاحه من صنعاء او من أي مكان آخر. من دون هذا السلاح، لا يساوي الحوثي شيئا، على الرغم من ضرورة الاعتراف بانّه ظُلِم تاريخيا. يريد ان يكون شريكا فعليا في السلطة. هذا من حق الحوثي. ما ليس من حقه انّه يريد تحقيق هذه المشاركة بفضل سلاحه وميليشياته المذهبية وبالتحالف مع ايران. وهو تحالف اكّدته الزيارة التي قام بها وفد من “انصار الله” أخيرا لبغداد حيث استقبله وزير الخارجية إبراهيم الجعفري وعدد من قادة الميليشيات الشيعية التابعة مباشرة لإيران.
قطع الوفد زيارته لبغداد وعاد الى مسقط التي انطلق منها. لم يذهب لا الى بيروت ولا الى طهران، كما كان متوقّعا. لكنّ ما حصل قد حصل. ظهر جليّا انّ كلّ ما يقال عن ان تأثير ايران على الحوثي تأثير هامشي ليس صحيحا بأيّ شكل. المعركة في اليمن مع ايران اوّلا وأخيرا، وهي معركة طويلة وقاسية.
لا تنقص هذه المعركة الإرادة العربية التي تعبّر عنها “عاصفة الحزم”، بمقدار ما ينقصها الطرف الذي يستطيع كسر الحلقة المقفلة التي يدور فيها البلد. اسم الحلقة هذه ميزان القوى القائم الذي لم تتمكن “الشرعية” من الانتهاء منه على الرغم من كلّ ما توفر لها من مساعدات على كلّ صعيد وفي كلّ مجال.
في غياب الفريق اليمني “الشرعي” القادر على تغيير ميزان القوى جذريا، ليس مشروع التقسيم الذي يستعيد تجربة غزّة انطلاقا من صنعاء هو الذي سيفشل فحسب، بل سيفشل أيضا كلّ مشروع لاقامة سلطة مركزية قوية او دولة اتحادية ذات إقاليم ستة او اكثر او اقلّ أيضا.
لا وجود لأي امل في اليمن. ما ينتظر اليمن في ظلّ الظروف الراهنة هو التفتيت ومزيد من التفتيت على الرغم من كلّ الجهود العربية المبذولة للقضاء على تنظيم “القاعدة” الارهابي واخوته واخوانه، خصوصا في المناطق الوسطى والجنوبية. هذه الجهود لمواجهة ارهاب “القاعدة” ذات طابع إيجابي من دون ادنى شك… لكن كيف توظيفها في تحسين الوضع على صعيد البلد كلّه. ذلك هو السؤال الكبير، بل السؤال الاهمّ في هذه الايّام المتشحة بالسواد اكثر من ايّ شيء آخر.