ما كاد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يصل إلى مطار بيروت في نهاية نيسان الفائت، آتياً من باريس حيث اجتمع مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، حتى بادر إلى الاتصال بالنائب السابق فارس سعيد، طالباً منه بإلحاح الاجتماع به وبالنائب السابق سمير فرنجية في اليوم التالي.
كان يمكن الاتصال واللقاء أن يكونا عابرين، لولا الافتراق الحاد الذي طبع علاقة بكركي بالرجلين وبما يمثلان، منذ أن تولى الراعي السدة البطريركية والمنحى الذي اتخذته مواقف بكركي وانعكاسها على الساحة الداخلية. لكن فرنجية وسعيد لبيا رغبة الراعي والتقيا به أكثر من مرة بعيداً عن الإعلام. بالنسبة إليهما، وفق ما نقل عنهما، وهما اللذان طبعا مرحلة أساسية في تعاطي بكركي في الشأن السياسي والوطني عبر لقاءات قرنة شهوان، تبقى بكركي رمزاً ومركزاً جامعاً يجب الحفاظ عليه، ويجب تبعاً لذلك الاستماع إلى ما يريده الراعي.
رغم السرية التي حافظ عليها فرنجية وسعيد، علم أن الراعي نقل إليهما استياء من التقاهم من دوائر فرنسية وأخرى فاتيكانية من الحال التي وصلت إليها الأوضاع في لبنان، وخصوصاً لجهة تعامل الأطراف المسيحيين مع قضية أساسية وجوهرية كانتخابات رئاسة الجمهورية. ضمناً، كانت بكركي تتلقى أيضاً عتباً على عدم قدرتها على جمع المسيحيين والموارنة على موقف موحد، ولا سيما في ظل الحرب التي تطاول دولاً عدة في العالم العربي ودخول لبنان على خطها.
تبعاً لذلك، كان التشاور في لقاءات بكركي في ضرورة وضع أفكار رئيسية لمعرفة ما يمكن القيام به من محاولات لإنقاذ الوضع بأقل الأضرار الممكنة على لبنان والمسيحيين فيه. توالت اللقاءات بعيداً عن الإعلام، وتوسعت نقاشاتها في حلقات ضيقة، رسمت خطاً جديداً في محاولة لإعادة إظهار دور بكركي التاريخي في المفاصل الأساسية، التي يعيش لبنان اليوم أخطرها. من هنا انطلقت النقاشات بين الراعي وفرنجية وسعيد حول الرؤية التي يمكن أن تنطلق منها بكركي مجدداً وإظهار دورها الوطني والمسيحي وإعلاء الصوت من أجل الدفع في اتجاه خطوات حاسمة تتعلق بمصير لبنان ووضع خلاصات وطنية وسياسية لإنقاذ الوضع الداخلي. وقد خلصت الاجتماعات إلى وضع مسودة عمل للنقاش تحت سقف إعادة تظهير دور بكركي كمركز وطني ومسيحي جامع، والحفاظ على لبنان التعددي والعيش المشترك وتمتين علاقات المسيحيين مع شركائهم في الوطن وفي بناء تجربة الطائف. علماً بأن الأفكار التي وضعها النائبان السابقان لا تشذّ عن تلك التي سبق لهما أن ركزا عليها في أوراق عمل عدة نوقشت خلال المؤتمرات التي عقداها أخيراً.
في موازاة ذلك، تدفع شخصيات مسيحية خلال نقاشات جانبية على هامش ما يعقد من لقاءات حوارية في الصرح البطريركي، إلى أهمية استعادة بكركي دورها الذي لعبته منذ أن كانت أساسية في تركيبة لبنان وفي الانفتاح على العالم العربي أيام التقوقع، وفي بقائها صامدة ومنفتحة على الطوائف الأخرى خلال أطول حرب أهلية عاشها لبنان من بين حروب المنطقة.
لقاءات بعيداً
عن الإعلام لإعادة تظهير دور بكركي التاريخي
يركز الذين يريدون بشدة دوراً مركزياً لبكركي كما كانت خلال الحرب وبعدها، على أهمية سلطة بكركي المعنوية وتأثيرها على الإطار الوطني والحوار بين المسيحيين والمسلمين، ولا سيما في هذه المرحلة الحساسة، انطلاقاً من المجمعين اللذين عقدهما الفاتيكان من أجل مسيحيي لبنان والشرق. ويعترف هؤلاء بأن ثمة مأزقاً وصلت إليه بكركي التي بدورها تعرف أن ثمة مراجعات تحصل لدورها كما لدور المسيحيين عموماً، وأن المطلوب محاولة من جميع الأفرقاء الذين أيدوا الصرح في الأعوام الأخيرة والذين خاصموه، من أجل الخروج باقتراحات عملية تخرج المسيحيين من المأزق وتخرج معهم لبنان من أزماته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر انتخابات رئاسة الجمهورية.
وفيما كان ينعقد لقاء نواب 14 آذار مع الراعي، ورغم ما شابه من لغط وتأكيدات مقابلة حول الكلام الذي قيل عن النصاب المفترض لجلسة رئيس الجمهورية، فإن المشهدية الجديدة من إعادة استقطاب بكركي لمجموعة من النواب أعادت تسليط الضوء على ما يمكن أن ترسمه مجدداً على طريق التغيير الجديد.
في المقابل، يعقد يوم الأحد لقاء سيدة الجبل في الدير الذي سبق أن رفضت الراهبات سابقاً تقديمه للقاء. وربما كان عصر الانفتاح الذي تعيشه بكركي قد أسهم في استعادة الدير ليشهد مجدداً نقاشات وطنية ومسيحية. وهو ينعقد بحسب منظميه للبحث في الوضع الداخلي انطلاقاً من نقطتي وضع المسيحيين والعلاقات مع المسلمين، في ضوء التجربة التي عاشتها قرنة شهوان وما نسجته من لقاءات مع الأطراف الإسلامية في لقاءات البريستول و14 آذار في وجه التجارب الأخرى التي حاولت عزل المسيحيين وإبقاء سيف تحالف الأقليات فوق رؤوسهم. إضافة إلى وضع رئاسة الجمهورية والنقاش بين رؤيتين، الأولى ترى أن الرئاسة معلقة إلى حين نضج الظروف الخارجية، وبين قائلين بإطار محلي بحت من أجل تمرير الانتخابات. وبين هذه المحاور، وبين ما يعقد في الصرح، تدور النقاشات التي قد ترعاها بكركي في محاولتها المستجدة لتزخيم دورها. ولعل العبرة هذه المرة تكون في التنفيذ، لا في إعداد الوثائق فحسب.