ما زال “لقاء سيدة الجبل” المقرر عقده في الثالث والعشرين من الجاري يثير الجدل في الاوساط السياسية اللبنانية وبعض الاوساط المسيحية العربية، خصوصا، بعد أن عقدت امانة سر اللقاء مؤتمرا صحافيا أماطت فيه اللثام عن مواقف انطلقت من تكهنات وإفتراضات، وأخرى إستبقت الإعلان عن مكان وموعد إنعقاد “اللقاء” وتوجيه الدعوات وتحميل المشاركين والجهة الداعية ما لم يعلنوا عن نيتهم في تحمله من مواقف.
ومن ابرز تلك التعليقات إتهام الجهة الداعية والمشاركين بالسعي الى التقوقع والإنغلاق! ومن المعلقين من ذهب يبحث في تاريخية الشخصيات المشاركة او الداعية على حد سواء، في محاولة للإنتقاص من أهمية اللقاء، ومن صدق الجهة الداعية في بحثها الجدي عن ما يمكن ان يحض المسيحيين على الإنخراط في الربيع العربي بعد موجة الترهيب التي تعرضوا لها والتي ليست سوى سياقا تاريخيا يمتد لاكثر من نصف قرن، أسهم في إخارج المسيحيين من دائرة التفاعل السياسي والاجتماعي والثقافي في مجتمعاتهم وحولهم الى مشاريع مهاجرين أو لاجئين، وفي أفضل الاحوال أدوات في يد انظمة الاستبداد، تسعى يوميا الى إثبات ولائها للسلاطين والطغاة في مغالاة في التزلف والاستزلام إنطلاقا من عقدة خوف دخلت في النسيج المجتمعي العربي عامة ومن ضمنه المسيحي.
ومن التعليقات ايضا من ركز على تغيير مكان إنعقاد اللقاء من “دير سيدة الجبل” الى “فندق ريجنسي” ليبني أطروحة سجالية لا قيمة لها تجاه الغاية الرئيسية من إنعقاد.
ومنهم من ذهب للقول إن اللقاء حتى الآن لا يعرف ما الذي يريده، وهو لا يبحث عن هوية مسيحية، بل يريد تأكيد مواجهته لمواقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، ويسعى لان يكون بديلا او رديفا او حتى إضافة على الاحزاب المسيحية. او ان المشاركين يسعون الى إيجاد مواقع سياسية او مجتمعية لهم او يبحثون عن شاشة وميكروفون……
وفي الحقيقة فإن هذه التعليقات تجافي الحقيقة ولم تقاربها، وهي إن دلت على شيء إنما تدل على جهل القائلين بها بطبيعة اللقاء، أو موقفهم المسبق من المسيحيين وطبيعة الدور الذي يريدون الإضطلاع به أو الذي يجب أن يضطلعوا به. ومنهم من يخشى الى درجة الخوف من أن يخلق هذا اللقاء دينامية جديدة تنسحب على سائر الطوائف اللبنانية لتبدأ كرة الثلج بالتدحرج لفك أسر القوى الحية في المجتمعات المنغلقة والخاضعة لسيطرة الاحزاب الشمولية في لبنان والخارج لتبحث هي بدورها عن ما يمكن ان يصالح المجتمعات مع نفسها ومع بعضها البعض ومع محيطها.
فالمسيحيون، واللبنانيون من بينهم خصوصا، تميزوا بتعددية سياسية، ولم يصادر قرارهم يوما لا “ثنائية” ولا ثلاثية ولا رباعية. فكان الاختلاف في الرأي حق لم يستطع أحدا مصادرته: لا حزب ولا ميليشيا ولا سلطة من اي نوع كان دينية كانت ام زمنية. وما سيحصل في لقاء سيدة الجبل لا يختلف في سياقاته عن تقليد مسيحي يثمّن عاليا حق الإختلاف داخل الجماعة المسيحية وخارجها. وهو ما يجب ان تندرج وتتدرب عليه سائر المكونات المجتمعية اللبنانية والعربية دينية كانت ام سياسية. خصوصا، أن زمن القادة الملهمين والمعصومين إنتهى بعد ان افضى الى نتائج كارثية في لبنان والمحيط العربي. ولا حاجة لتعداد أخطاء هؤلاء القادة الملهمين والذين ساقوا “الجماهير” بالحديد والنار الى حتفها في مستنقعات الفقر والتخلف والجهل.
التعددية واحترام حق الاختلاف تقليد درج عليه المسيحيون. فهم يختلفون مع قادتهم السياسيين وينشقون عنهم وينتفضون عليهم ويجاهروا في انتقاد سلطاتهم، حتى الكنسية منها، وصولا الى حد النزق!
أخيرا أن أكثر ما فاجأ الجهة الداعية هو كثافة الضجيج الإعلامي الذي إنطلق مع مجرد إنطلاق الإعلان عن إنعقاد اللقاء! وهو ما يشير الى خواء سياسي في البلاد. فبدل ان يكون اللقاء قيمة مضافة الى الحركة السياسية التي يفترض أنها تحكم السجال السياسي في البلاد، أصبح مجرد الإعلان عن إنعقاد اللقاء هو الحدث السياسي الاول لينطلق، تزامناً، سيل التعليقات الرافضة والمؤيدة وتلك التي تنطلق من خلفية حسابات شخصية مع الجهاة الداعية و………
هذا الضجيج والسجال الذي رافق الإعلان عن إنعقاد لقاء سيدة الجبل وضع الجهة الداعية امام مسؤولية تتعاظم يوما بعد يوم، بما يضع الخلوة الثامنة امام تحديات عدة لا تندرج طبعا في خانة الرد على المنتقدين بل في تفعيل دائرة النقاش وصولا الى القواسم المشتركة التي تعيد موضعة المسيحيين في قلب الحدث السياسي اللبناني والعربي من منطلقات تختلف عن سياقات العقود السابقة، وتنطلق من الدينامية السياسية التي أطلقها “الربيع العربي”.