اللحظات الاولى لإسقاط حسني مبارك، بعد سقوط زين العابدين بن علي، أثارت الدهشة والذهول لدى الجميع، بمن فيهم «العارفين»، وخصوصا «المناضلين»، أو «الناشطين». فكانت «وقفتهم» الفكرية، وقد اتخذوا فيها وضعية الحيرة والسؤال، بل الصمت احيانا. الأكثر تواضعا راحوا يكتبون عن هذا الحدث الذي لم يكن في افقهم، لا من قريب ولا من بعيد. يعرضون اسبابا كانوا سهوا عنها، او اشارات لم يقدروا حجمها. لم يكن يتجرأ احد وقتها ان يقول مثلا بأنه تنبأ بها، هذه الثورات، او شعر بانذاراتها، او أي شيء آخر. الأقل تواضعا، من ذوي البسالة الفكرية، طرحوا اسبابا «عميقة» و»خفية» لهذه الثورات، لا تدركه بصيرة اترابهم، على ما تصوّروا. فعادوا الى قواعدهم بأقل الاضرار الممكنة في ما يتعلق بسمعتهم «العلمية». الاثنان على كل حال، الاكثر والاقل تواضعا، حفظا من هذه اللحظات الاولى ترنيمتها، وقد لحنها زلزال الثورات: من ان الوقت الآن هو للـ»مراجعة» و»إعادة النظر»… الى ما هنالك من عدّة التفخيم الفكري، الملائمة لـ»طبيعة المرحلة«.
لذلك عندما زال بعض غبار هذا الزلزال بعد سنة ونيف على حدوثه، وقرر «عارفون» عقائديون من بين اليساريين القدماء انتاج معرفة عن الثورات العربية، فاصدروا الكتابات تلو الاخرى، كان لا بد لهم من الاحتفاظ بمصطلحات اللحظات الاولى ووقفاتها. فهم بطبيعة الحال، كما يصفون انفسهم، أصحاب «فكر نقدي»، يباشرون فقراتهم وهم مهمومون بالـ»قلق والجهد»؛ لذلك يجدون انه «لا بد من منظور جديد». وهم لا يتوقون الى اقل من «إعادة تأسيس قوى المشروع اليساري وتياراته»، لذلك يحتاجون الى «أشكال مبتكرة من التنظيم والتمثيل». هذا عن المهمة «التنظيمية». اما «المهمة الفكرية»، فهي ليست مثل تلك السائدة في الدراسات الاجتماعية، التي تركز على «الترميز والتمثل (ما معناه؟) وتحليل الخطاب». كلا ليس هذا ما تعتمده في نضالها الفكري. بل ستتبنى هي «المنظور الاجتماعي»، أي انها سوف تدرس «العلاقات الاجتماعية في تحولها وفي ما تنطوي عليه من تمييز وتراتب وفوارق»…. الى ما هنالك.
ماذا تنتظر من هكذا مقدمات؟ ان يمنحك صاحبها نتاجا فكريا، وهو يقدم نفسه على انه من هذا «العيار»، فهما اضافيا عن الثورات، عن تعرجات مسارها، اشاراتها المتناقضة، مفارقاتها، المخاوف الحقيقية التي تثيرها… لدى اصحاب المنظور اليساري «المتجدّد». ولكنك سرعان ما تكتشف، مع الفقرات، ان كل ما سبق لم يكن الا ثوبا، طلسما، ترميما لواجهة خارجية، وبدهان من الصنف الرديء.
فما ان تزيح كل هذه القشرة، وما ان تضعْ جانبا مصطلحات من نوع «العولمة النيو ليبرالية» أو «إملاءات البنك الدولي» أو»صندوق النقد الدولي» التي تعممت خلال العقدين الاخيرين… حتى تحضر الثوابت اليسارية اياها، فتعود لتعيش زمنا آخر، سابقاً بكثير على هذين العقدين… في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
من هذه الثوابت، «طليعية اليساريين»: في فقرة واحدة، لا يفصل بين جملها غير النقطة، يكتب «عالِمنا المناضل»: «أسهم اليسار وشبابه إسهاما متواضعا (..) في الانتفاضات في تونس ومصر واليمن»، ثم يتابع حرفيا: «كان الشباب اليساري في طليعة المبادرين للنزول الى الشوارع واحتلال الميادين…» الخ. بعد ذلك، خذْ على لغة من حديد، تنهال عليك، ولا تختلف في شيء عن لغة تقارير اللجنة المركزية لأي حزب يساري، كان متألقا في زمانه…
مثلا: «لا بد لليسار ان يستعيد مشروعه المجتمعي كاملا (…) هذا ان اراد البقاء على قيد الحياة والمنافسة في كسب الرأي العام والجماهير الشعبية التي يفترض به تمثيل مصالحها الأكثر جذرية». او مثل آخر، «ضرورة تطعيم الديموقراطية السياسية بالديموقراطية الاجتماعية عن طريق المساهمة في حل التناقض بين المساواة السياسية للمواطنين في الدولة واللامساواة بينهم في المجتمع، وهي المساواة الناجمة عن الفوارق والامتيازات الطبقية بينهم». لا بأس من الصبر… مثل اخير: ان التاريخ نفسه «بات يسمح بتجاوز الرأسمالية». لماذا؟ لأن «البشرية بلغت درجة من التطور(…) ما يسمح بسد الحاجات الاساسية لجميع سكان المعمورة(…) ان العقبة الاساسية امام تحقيق تلك المهمة التاريخية (أي تجاوز الرأسمالية) هي الملكية الفردية ومبدأ الربح…»الخ. على هذه الشاكلة، عبارات مثل الشعارات، مثل اللازمات، من قبيل «الديموقراطية هي طريق الاشتراكية« أو «التقاء المصالح بين المتضررين من الامبريالية المعاصِرة«.
كان ينقص في هذا المعرض للآثار الفكرية البائتة مصطلحات مثل «المعسكر الاشتراكي»، «طليعة العالم الثالث»، الاتحاد السوفياتي (ساقبا، روسيا حاليا) والصين، نصيرَي الأحزاب الجماهيرية اليسارية المناضلة من اجل الحرية والعدالة. لكن الدولتين غابتا، ولم تحضرا الا بكلمتين غير مفهومتين تماما، ننقلمها حرفيا، منعا لمزيد من الالتباس: «…على ان هذه الحقيقة ليست تعفي الاشتراكية والاشتراكيين من التحدي الأكبر الذي تكشفت عنه تجارب «الاشتراكية المتحققة»». ونظن ان العبارة الاخيرة، «الاشتراكية المتحققة»، يقصد بها «عالِمنا المناضل»، دول ذاك المعسكر؛ لم يسمها بوضوح، ربما منعا للإحراج، او دفعا لسؤال. عدا ذلك ولا كلمة واحدة عن الصين وروسيا (السوفياتية سابقا) عن الدول التي «تحققت بها الاشتراكية»؛ لا الى ما آل اليه اقتصادها وناسها وبيئتها ونظامها السياسي، بمافياته وطغمه المالية؛ والنتائح على الصعيد الاجتماعي، أي «العدالة»، اختصاص اليساريين بامتياز. ولا طبعا موقفها من الثورات العربية، مطامعها، توسعيتها، نكاد نقول امبرياليتها، وكلها باتت صارخة؛ ولا، أخيرا، «الحالة السورية» (لاحظ تعبير «الحالة»)، وذلك «بسبب دور الاحزاب الشيوعية المتحالفة مع النظام». كل هذا يطير… ولا تبقى غير الامبرالية الابدية، الاميركية والاوروبية، والموصوفة بالـ»معاصِرة«.
والمدهش انه، بعد مروره مرور الكرام على دول الاشتراكية «المتحققة»، ماذا يقترح علينا «عالمنا المناضل»؟ «النموذج البرازيلي»، وإن بـ«حذر»؛ اذ «لا توجد وصفات جاهزة». يسميها «محاولات حل تستحق الدرس منها تجربة حزب العمال البرازيلي في الحكم خلال العقدين الاخيرين». لماذا البرازيل بالذات؟ لا الهند أو جنوب افريقيا؟ او حتى الارجنتين، التي ركن الى نموذجها المرشح اليساري في الرئاسيات الفرنسية الاخيرة، جان لوك ملانشو؟ ناهيك طبعا عن الصين وروسيا؟ هل لأن قادة هذا الحزب هم يساريون سابقون؟ أم لأن اسم الحزب الذي يحكمها هو «حزب العمال البرازيلي»؟ اذ لا يوجد، للأسف، ما يمكن وصفه بالـ»اشتراكي» في البرازيل، غير هذين الملمحين، الضغيفين على كل حال. فأن تكون اشتراكيا سابقا لا يعني بالضرورة انك ستبقى اشتراكيا بعدما تتقلد زمام الحكم. وتجربة اللذين لا تذكر اسماؤهم، أي الصين وروسيا، تزخر بمسارات تقف على النقيض التام من الاشتراكية وعدالتها. اما اسم الحزب «العمال»، فيمكن بالعكس ان يلعب دورا مضلللا، اذ يقول «عمال» ويقصد شركات واستثمارات وبنك دولي، كما هو حاصل الآن بالضبط في البرازيل.
نص «عالِمنا المناضل» يشبه ترميم طرقاتنا الرثة؛ سدّ حفرة، ترقيع، زفت مغشوش، تلكوء هنا، اهتمام هناك؛ شتوة واحدة تفضحه، عاصفة متوسطة تدمره؛ قراءة، سريعة بالضرورة، مائلة، تذيب قشرته العلمية المدعاة… فيظهر الهيكل الحديدي الذي يتشكل منه هذا النص. وهو عبارة عن لازمات محفوظة، مفوتة، مكرّرة، تغير فيها حرف من هنا، وغاب عنها مصطلح من هناك… يتخلل هذا الهيكل وصلات خاطفة من التوابل والرتوش لا تقنع غير المقتنع اصلا. ولا تجذب الا الذين يقتلهم فضولهم.
عما يبحث هؤلاء العقائديون المعتزون بثوابتهم التقريبية؟ انهم، كما يقولون، يبحثون عن دور ما في هذا «المشهد الهائل»، عبر «كسب الرأي العام والجماهير الشعبية»، عن دور «فكري»، او «ثقافي»، يفضي بهم الى السياسي، عبر «حزب جماهيري» يرونه بديلا عن الاحزاب المهترئة الخ. هذا من حقهم؛ كما هو من حق كل باحث عن دور، خصوصا في هذه الايام. ولكن ما هو ليس من حقهم، هو ان يلووا المعرفة والبحث ويسخرونهما، ان يدعوا براءة سياسية؛ أن يرفعوا عاليا شعار «النقد» ويمتدحوا «المنظور الجديد»، ثم ينسون انفسهم، ويروحون يردّدون المحفوظ عن الامبرالية والنيوليبرالية والعولمة والرأسمالية. اما ان ينقدوا تجربتهم نفسها، ان يعطوا معنى لذاك الزمن الذهبي الذي ما زالوا يحلمون بالامجاد التي انعم بها عليهم… فهذا لا تنتظره. فهم زعماء عهد بائد. ومثلهم مثل الأنظمة الآيلة الى السقوط، ينظرون الى مرآتهم، فلا يرون فيها غير صورتهم، وقد رمموها بألالوان الباهتة التي لا يمتلكون غيرها.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية