هنالك لحظات في العمر تثيرها ذكرى.. عندها تتوقف الساعة و يختل الزمن، ويختلط الماضي بالحاضر وتتلاشى السنين فيصبح اليوم والأمس واحدا.
أهي أربعة منذ أن اغتالوا الحب فيك؟ أم هي عشرون ونيف حين التقينا لآخر مرة؟ لم أعد أدري والعراق ما أنفك يأكل أبناءه وأحلامه بلا رحمة منذ عقود. تاريخ صنعته الجثث ودماء الأحبة، وركبه الطغاة والمدعّون والمعتوهون. إرث ثقيل ما زال يغتال الطفولة والحب والجمال في تلك الأرض الملعونة بنقمة النفط الذي نسمع به ولا نراه، ونعمة النهر الخالد الذي نشدو له ولا نشربه.
أأبكيك ، أم أبكي معك آلافا مؤلفة رحلت معك؟ قتلتهم هم قتلتك، هي ذات الوجوه وذات المعالم، سيان إن ارتدوا ثياب عبيد القائد الضرورة أم عمائم الوهم، فكل يكره الحب والخضرة وضوء الشمس، وكل أقتص من الوطن.
من أعزي فيك؟ المسّيب الحالمة أم بغداد الحبيبة، الأحباب في عائلتك الجميلة وكل من عرفك ولم يعرفك أم العراق الكبير بمجمله؟ أأعزي “الثقافة” و”الثقافة الجديدة” و “تاريخ الشعب”، أم ما تبقى من نقاء وصفاء في قلوب العراقيين وفي أنهاره ونخيله؟ ما أصعبها من لحظات، في زمن تماهى فيه القاتل بالمقتول والجلاد بالضحية.
يقولون بأن قتلى الصحافة والثقافة في العراق ناهز المائتين في خمس سنوات، وعشرات غيرهم لا يزالون في أيدي “خاطفين”. من هم هؤلاء؟ سلطة أم مقاومة أم أمريكان أم إيرانيون أم قطاع طرق أم ماذا؟ سيان أيضا، فالموت في العراق بات يتكلم جميع الألسن، ولا عزاء للآلاف الذين قتلوا صبرا وصدفة، قصفا و”جهادا”، باسم الله واسم الشيطان، باسم التحرير وباسم المقاومة، وباسم الديمقراطية واللاديمقراطية ، سم ما شئت.. إنه الموت فحسب.
قتلاهم في الجنة وقتلانا في النار، وأسراهم أبطال وأسرانا نكرات لا يذكرهم أحد، ولا يجمع لهم أحد التواقيع، ولا يتوسل الإفراج عنهم رؤساء الدول، فليس فينا تيسير علوني أم سامي الحاج، وليس فينا متهم بالإرهاب، ولا من يصلي في محراب القاعدة، ولا من يسترزق من فضلات الجزيرة، ولا من يقبل حذاء حسن نصر الله. قتلانا مبتلون بحب العراق، ويا له من إثم جميل.
قصة الحزن في بلادي هي قصة تأريخ العالم أجمع، فهناك بدأت الكتابة وأزهر الفكر، وهناك خلقت قيم السلطان والموت المجاني. عندما رسم العراقيون صورة الكون لأول مرة عند طفولة البشرية الأولى خلقوا الآلهة الأولى، وخلقوا معها شهداء سطوتها، صنعوا السلطان وصنعوا معه الشهيد ليبكوه فيما بعد.
في بلادي لم يعد أحد يبكي أحدا، فالعمر بأجمله مرثية. كل ثنايا حياتنا سرادقات عزاء، شعرنا ونثرنا، قصنا وقصيدنا، غناؤنا وغزلنا، حتى الفرح نتطير منه خوف عاقبة سيئة. هكذا كنا منذ مقتل الإله سين قبل أربع آلاف سنة ومن بعده الحسين ، وهكذا سنبقى باكين جيل إثر جيل. فضميرنا الجمعي يبحث دوما عن ثنائية الشهيد – الطاغية، يبحث عن قاتل يخضع له ومقتول يرثيه.
هذه هي بلادي، كما يقول الجواهري الكبير في دجلة الخير.. هي سكتة الموت وهي الأطياف الساحرة، وهي خنجر الغدر و هي أغصان الزيتون. هي التي طفحت مجاري دجلتها من فوق الى دون، وهي التي انفجرت أنغامها السمر عن أنات محزون.
العراق قصة الموت والحياة و قصة الخلق والفناء، إنه الأول والآخر.. هذه هي بلادي.
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي