قد أملكُ من الثّقة ما يكفي لكي أقول أنّ الحياة من غير المعرفة هزيمةٌ مؤكّدة. وأكثر من ذلك، أجدني أقول أنّه لا يكفي أنْ تعرف، بل ما تحتاجُ إليه في معترك المعرفة أنْ تملكَ من العقل ناصية الفهم.
الفهم الذي يعني أنّكَ تمضي في طريقكَ مستنيراً، تملك الكثير من جرأة السؤال، وشغف البحث، ويقين الذات، وبريق الإدراك. وتملكُ ما يكفي من الشجاعة بحيث تستطيع أنْ تتركَ عقلك يمضي حرَّاً إلى أقصى ما يستطيع في سباق الفهم.
والوصول إلى الفهم في نظري يعني التدرَّب طويلاً على ممارسته وتعلّمه والتداخل معه والانصهار في مستوياته والتخلّق في مخاضاته. وامتلاك الإنسان للقدرةِ على فعل الفهم يعتبر من أرقى انشغالات العقل والفكر. والتدرَّب على الفهم وتعلّمهِ والتّمتع بلذّتهِ وتجلّياته، يعني النشاط الفكريّ الذي يعمل على استحضار السؤال بعد السؤال، واستدعاء المنطق، وتقصَّد الاحتمالات، وبذل الجهد في البحث والتقصّي وتتبّع الأسباب، والتحلّي بشغف المواصلة والإصرار على الفهم. وفي هذا الفهم طريق الإنسان نحو الحريّة. الحريّة التي تجعله حرَّاً تماماً في استقصاد الفهم على طريقته وأسلوبه وتفكيره المتحرّر من كلّ القيود والاعتلالات الذهنية والمعيقات الاستلابية، والمنعتق كلّياً من هيمنة الفهم السَّائد والشّائع والمستبد.
أنّكَ تحتاج إلى الفهم كثيراً، كي تستطيع أنْ تفهمَ جيّداً لماذا عليكَ أنْ تمضي هنا وهناك، من دون أنْ تفترسكَ أهوال السأم أو اليأس أو التراجع أو الضَّجر أو التردَّد. لأنّكَ هنا تعرفُ أنكَ في الفهم كنتَ قد تجاوزتَ ما يعترض طريقك، وما يثنيكَ عن ممارسة حقّك في الفهم. وعرفتَ أنّ الفهم هو ما يجعلكَ تتخطَّى بِوضوح كلّ ما من شأنهِ أنْ يُصيبكَ بِالتّشويش أو الجمود أو العمى أو التخوّف. أنّكَ في فهمكَ تفهمُ أنّ عليكَ دائماً أنْ تجدَ طريقكَ إلى الحياة، وأنتَ تخوضها بالتّجربة والتفكّر والتعلّم والتفلسف والتدريب، وتجدَ أسلوبكَ في اجتراح المعاني التي تُنجيكَ من كارثة التّكرار واليقين والتعصَّب والانغلاق.
وقال (دافنتشي) ذات توهّج: أسمى متعة هي فرح الفهم. كيف نستطيع أنْ نفهمَ هذه العبارة البليغة؟ نستطيع بالتأكيد أنْ نفهمها حينما نكون في مخاض الفهم نستجلي التّجربة من وجودنا على قيد هذا المعنى. إنّه الفهم الذي يحرّر الإنسان من الخوف والمخاوف ومن الأوهام ومن الزيف ومن التعلّق بالافهامات السائدة الهالكة للتفكير والتقدِّم والتّخطّي والإبداع. وإنّه الفهم الذي يمنح الإنسانَ جوهر التّعالق الخلاّق مع حريّة القرار والاختيار والأسلوب، وهو الفهم الذي يضع الإنسان في صلب تجربتهِ صانعاً وخالقاً ومفكّراً ومبدعاً أيضاً. وإنّه الفهم الذي يجعل الإنسان ساعياً بحماسةٍ وشغف إلى كلّ تفاعلاتهِ في الشّك والنقد والاحتجاج والتفسير والسؤال، ولذلك وفي كلّ ذلك نستطيع أنْ نفهم كيف يكون الفهم فرحاً ولذّةً في متعةٍ سامية.
في أصل الفهم، تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تعرف كيف يجب أنْ تكونَ في تجربة التفكير، تتبنّى المحاولة بعد المحاولة في بناء تجربتك الفكريّة والتفكّريّة، وأنتَ في مواجهة المعاني والأفكار والتساؤلات والاجتراحات والمفاهيم. إنّكَ في هذا المخاض تؤسس وعياً حول طريقتكَ في التفكير، وتبني أساساً حرَّاً يقوم على جرأة التقصَّي والبحث والسؤال، ومن خلاله تمضي ساعياً نحو استدعاء الذاكرة المعرفية الإنسانية الحرَّة في تعالقاتكَ المنطقيّة والتساؤليّة والتفكيريّة مع ما تريده أنْ يكونَ فهماً خلاّقاً وملهماً وباعثاً على الخَلق والإبداع والتغيير.
وطريقكَ في الفهم هو ذاته طريقكَ الذي يضعكَ في صلب معرفتكَ حول الأشياء . إنّكَ لا تستطيع إلاّ أنْ تعرف، لأنكَ تريد أنْ تعرف، وتعرفُ أنّكَ في خضمّ الأشياء والأفكار تستقصد المنطق فيها ومن خلفها. إنّه فهمكَ هذا الذي يحرّركَ هنا من الأسبقيّات اليقينيّة ومن الإفهامات السقيمة، وتعرفُ أنّ معرفتك في أساسها تقوم على منطقكَ الذي يحرّركَ هو الآخر من هيمنة التفسيرات الدَّارجة وأدلجة المنقولات الشائعة . وأنّك في كلّ ذلك لا تستطيع إلاّ أنْ ترى المنطقَ ينتصر للإنسان من حيث كونه يملك حقّاً أصيلاً في أنْ يمضي حرَّاً في فهمهِ وسؤالهِ وتفسيره .
وأجملُ ما في الفهم ، إنّه يتمتّع برصانة المنطق ووضوح الرؤية ومتانة التحليل، لأنّه يملكُ أنْ يضعكَ في طريق الحقيقة. الحقيقة التي تستطيع أنْ ترصد تحوّلاتها وتطوّراتها في مسافةٍ تطلُّ على مسافة ، وبين مسافةٍ وأخرى هناك أيضاً ألفُ مسافةٍ وطريق ، وفي كلّ ذلك يبقى الفهم وحده الذي يملكُ أنْ يُخبركَ عن الطريق إلى حقيقتك . إنّها في معظم الأحوال حقيقتكَ التي تستطيع من خلالها أنْ تفهم لماذا عليكَ أنْ تعرف أنّ أول الفهم يبدأ من ذاتك في حقيقتها الإدراكيّة لمستوياتها في التفكير والتعالق والتفاعل والإنجاز .
ماذا لو حاولنا أنْ نستفهمَ عن لذّة الفهم، كيف تبدو وكيف نستطيع أنْ نستشعر وجودها في طريقتنا وفي أسلوبنا وفي حواسنا وأذهاننا؟ في نظري هناك دائماً لذّةٌ ما في معظم الأفعال الإنسانيّة تلكَ التي تتعلّق بطريقة الإنسان وأسلوبه حول انشغالاتهِ وأفعاله وممارساته ، سواءً أكانت لذّة ماديّة أم معنوية . ومَن يجدونَ أنفسهم في انشغالات العقل والتفكير والنقد ، يعرفونَ جيّداً أنّهم في مراحات المعرفة عليهم أنْ يصلوا إلى الفهم ، والاستمتاع تالياً بلذّتهِ المعنويّة والرمزيّة . اللذّة التي تمنحهم اشراقة في صفاء الذهن ، وفرحاً في زهو الإنجاز ، وتمنحهم متعة الذهاب بعيداً في استيلاد المعاني والأفكار . وهي اللذّة التي يكتشفونَ من خلالها إنّهم في ذواتهم كانوا يحقّقونَ فصولاً من الحرية . الحريّة التي تضعهم أمام أنفسهم مدركينَ تماماً بما يجترحونهُ في ميدان المعاني والأفكار والتصوّرات . ولذلك نستطيع أنْ ندرك معنى أنْ يكون الإنسان فرحاً وسعيداً وهوَ في مخاض الفهم مستمتعاً بِلذّتهِ في احساسهِ وشعوره وحريّته وفي انشغالاته الفكريّة والمعرفيّة والإبداعيّة.
ومقدار الفهم في عقولنا وتفكيرنا يساوي مقدار ما نملكُ من رصيد التجربة والذاكرة والمعرفة. إنّه رصيدكَ من حريّة التجربة ومن تخلّقات الذاكرة ومن معاني الخَلق . والتجربة هنا في تعالقها الساطع مع بناءات الفهم تعكس حقيقتها الخاصَّة في كونها تختبر في كلّ مرحلةٍ تحوّلاتها وارتقاءاتها ، وتعالج تعثّراتها وتوقّفاتها بمزيدٍ من حريّتها في تراكمات الفهم . والذاكرة هيَ الأخرى في اشتباكها الحميميّ مع الذات التساؤليّة تستدعي بالضّرورة خبرتها الخلاّقة في حركتها الدائمة مع تصوّرات الفهم . والمعرفة في كلّ ألوانها وتنوّعاتها وتجسَّداتها وتعبيراتها تتضافر مع الفهم في خلق المعاني الحرَّة ، وتبقى أبداً رصيداً متوفّراً في حساب الفهم .
وفي تلخيصٍ رومانسيّ لِتداعيات الفهم على شعور الإنسان ، أودُّ أنْ أقول بأنّ لحظةً من وعيّ الفهم قد تكون كافية لكي تجعل الرُّوح تنتشي فرحاً بما لديها من ألق التّواجد على قيد اللذة الملهمة . إنّها اللذّة التي تستدعي لذّةً أخرى بِذات الشغف واللهفة ، وتنسابُ في شعور الإنسان انتصاراً وضّاءً يمنحه أفق التّفتحات الفسيحة في رحابة المعاني والأفكار والتصوّرات . وفي كثيرٍ من الأحيان حين نختبر وداعة هذه اللذّة ، نجد إنّنا قد امتلكنا من القدرةِ ما يكفي لكي نحلّقُ بها بعيداً فوق الحياة ، وما هذا التّحليق سوى إنّه طائر الحريّة الذي يسكن أذهاننا وعقولنا ، ويهيمُ بنا الآفاقَ والمراحات .
الفهم وتخلّقاته وتحليقاته وتصوّراته هوَ جوهرك . هوَ جوهر وجودك من حيث أنّه امتدادكَ الخلاّق في تجربتكَ الحقيقيّة المستمرّة مع دفق التساؤلات والأفكار والتجلّيات . ولا تستطيع إلاّ أنْ تكون وفيّاً لجوهركَ هذا ، لأنّه يجعلكَ مستلهماً حقيقتكَ الواعية من تداعيات اللذّة في تجربة الفهم ، ويضعكَ في تبصَّرات الذاكرة تتلّمس الضّوء من أقاصي الطريق . إنّك في جوهركَ هذا تترصَّد فهمك كما لو أنّه جديدكَ دائماً في ابتكار ذاتك وأسلوبك وتفكيرك . وتخلقُ من فهمكَ هذا فهماً يأخذكَ شغوفاً إلى حقيقتكَ وهيَ تتجلّى اشراقاً في مخاضات السؤال . السؤال الذي يُبقيكَ شاخصاً أمام قدرتكَ في أنْ تتناولهُ بذات القدر من قدرتكَ على اجتراح حريّتك في أفق الفهم ، ويدفعكَ في الوقتِ ذاته إلى الانتقال به من أفقٍ إلى آخر في انسيابات الآفاق الملهمة .
وأجمل الفهم يأخذكَ شغوفاً إلى أجمل ما في تصوّراتك من إبداع التصوّرات . ففي التّصوّر أفقٌ وفكرة ، ومعنىً وطريق ، وفسحةٌ من ضوء الإبداع . فالتصوّر أفقٌ في التفكير يرتكز أساساً على فنّ الخَلق ورزانة الفهم ، وبهما تملكُ ما تستطيع أنْ تملكَ من وفرة الحسِّ المعرفيّ الذي يجعلكَ في مواجهة الواقع مسترشداً بكثيرٍ من تجربتكَ الفكريّة ، والتي تدفعكَ بِدورها دائماً إلى مواصلة طريقكَ في اكتشاف المعنى الجوهريّ من لذّة الفهم ، وفيها تعرفُ أنّكَ تستمتع بما لديكَ من تصوّراتٍ تُبقيكَ خلاّقاً في أفق التفكير .
والفهم أنْ تشعر بِوجودكَ كثيراً في حريّة المعنى ، وفي اجتراح الفكرة ، وفي خلق التصوّر . أنْ تشعر كثيراً أنّك لم تزل واثقاً من كونكَ تمضي في فهمكَ متحرَّراً مِن كلّ ما مِن شأنهِ أنْ يُرديكَ مستسلماً في مستنقعات الثابت والمكرر والسائد والشائع . وأنتَ خارج كلّ ذلك تجد فهمك وتتجلّى به وتنشده حرَّاً ، وتشعر به كثيراً . تشعر أنّه حريّتك وتجربتك وذاكرتك وانسيابك في معانيك وتخلّقاتك وتوجّساتك وفي انشغالاتك الفكريّة وفي تساؤلاتك التفكيريّة وفي استنطاقاتك الملهمة . إنّكَ هنا في كلّ هذا الفتح الخلاّق من الفهم ، لا تستطيع إلاّ أنْ تكونَ كما تريد أنْ يكون شعوركَ دافقاً بمتعة وجوده الحرّ في مناخات الفهم الفسيح .
وليسَ أجمل من أنْ ترى ذاتكَ بِكلّ ما يتوفّر لديك من رصيد الفهم . إنّك هنا تراها بكلّ وضوحكَ وتبصَّراتك . وعند كلّ نقطة فهمٍ تتجلّى ذاتكَ وضوحاً ونضجاً في مرآة فهمك ، إنّك تريد أنْ تراها كما لو إنّها فهمكَ الذي كنتَ قد عايشتهُ وتخلّقتَ به ووجدتهُ خلاصكَ من أغلال التّردد والتراجع والتلاشي والانكفاء والخوف . وكم ترى حين ترى ذاتكَ من خلال فهمك هذا ، إنّكَ تحقّقُ انتصاراً في معركة التحرير . تحرير ذاتكَ من ذاتكَ الجامدة والمتراجعة والمنهزمة ، وتحريرها من ترسَّبات اليقينيّات الخانقة .
وأليسَ جميلاً وجوهريّاً في الوقتِ ذاته أنّكَ تعرف وأنتَ تحيا في لذّة الفهم، إنكَ تستخلص من هذه اللذّة سعادتكَ من حيث إنّها تجعلكَ سعيداً بِحقيقة كونكَ سيّداً على ذاتك، ومالكاً فهمكَ ومستنيراً به . وفي لحظةٍ تكتشفُ أنّ هذا أعظم ما يحدثُ لك، لأنّك تملكُ أنْ تكونَ حرَّاً في فهمكَ وتملكُ أنْ تمضي في حياتكَ مسترشداً بأنوارهِ وتفتّحات آفاقه، وتملكُ أنْ تجد من خلاله طريقكَ الذي تكتشف معه متعة الفهم ولذّته وتجلّياته ورحابته وامتداده الخلاّق. وتملكُ أنْ ترى فيه حقيقتكَ التي تجدها تتخلّقُ دائماً في سفوح المعاني الطَّليقة والحرَّة .
كاتب كويتي
Tloo1996@hotmail.com