وجدتُ الجنرال في نهاية طريق متعرّج في جبال ألبرز على بعد 150 ميلاً شمال طهران. كان يجلس بهدوء إلى طاولة عليها الكثير من الكرز والنكتارين وفواكه أخرى. وكان جدول مائي يتدفّق على مقربة منه. كان مكاناً ممتعاً وريفياً غير مناسب لمناقشة موضوع مزعج: التوتّر بين إيران والولايات المتّحدة، واحتمال الحرب المتربِّص.
الجنرال، محسن رضائي، هو سكرتير مجلس تشخيص مصلحة النظام. وهو أيضاً القائد السابق لحرّاس الثورة. نادراً ما يتكلّم مع مراسلين أجانب – لا سيّما الأميركيين منهم. فوجئت عندما علمت من أحد مساعديه، خلال زيارة أخيرة لي إلى إيران، أنّه يرغب في لقائي في الفيلا التي يمضي فيها عطلته في الجبال.
نظراً إلى السياسة الإيرانية المعقّدة وشبه العصيّة على الاختراق، من الصعب أن نجزم إذا كان رضائي ينقل رسالة شبه رسمية أو يتصرّف من تلقاء نفسه. لكن بدا لي أنّه الاحتمال الأول لا سيّما وأنّ الحكومة سمحت أيضاً بإجراء مقابلات نادرة مع مسؤولين آخرين رفيعي المستوى، خصوصاً مع علي لاريجاني، كبير المفاوضين حول البرنامج النووي الإيراني.
كانت نية رضائي واضحة: أياً يكن السؤال الذي أطرحه، كان يحوِّل النقاش بطريقة ما نحو حاجة طهران إلى الخروج من مأزقها الخطير مع واشنطن. قال إنّ الرئيس بوش “بدأ حرباً باردة مع إيران، وإذا لم تُضبَط فقد تتحوّل حرباً ساخنة”.
واعتبر رضائي أنّ إيران تسعى جاهدة لإيجاد وسيلة منقذة لماء الوجه لوضع حدّ للمأزق الذي يسبّبه برنامج تخصيب الأورانيوم الذي يتواصل من دون توقّف. وافق بصراحة لم أسمعها من أيّ مسؤول إيراني آخر رفيع المستوى، على “التعليق الموقّت” الذي اقترحه مدير عام “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، محمد البرادعي. فقال رضائي الذي أشار إلى أنّ الفكرة تلقى دعماً داخل النظام الإيراني: “المقصود هو أن تحافظ إيران على مستوى [التخصيب] الذي بلغته من دون أيّ تقدّم إضافي. من المنطلق نفسه، لا يصدر مجلس الأمن الدولي قراراً آخر. يجب تسوية المسألة النووية الإيرانية من خلال نوع جديد من الحلول على غرار هذا الحل”.
واعتبر رضائي أيضاً أنّ المحادثات التي بدأت في الآونة الأخيرة في بغداد بين راين كروكر، السفير الأميركي في العراق، ونظيره الإيراني حسن قمّي، هدّأت الشعور بالتهديد في طهران. وأضاف رضائي الذي بدا مسروراً، أنّ المحادثات هي بمثابة إقرار متأخّر جداً من بوش بوجوب التعامل مع النظام.
لا يبدو رضائي، الذي هو في أواخر العقد السابع من العمر، مخيفاً بقدر سيرته المهنية. فهذا الرجل المتوسّط القامة الذي يتكلّم بهدوء قاد “حرّاس الثورة” النخبويين خلال الجزء الأكبر من الحرب الإيرانية-العراقية الهمجية في الثمانينات، وساعد على قيادة الهجمات الإيرانية التي أحكمت السيطرة على الأراضي العراقية في نهاية المطاف (أجابني باعتزاز عندما سألته عمّا قد يحصل في حال هاجمت الولايات المتّحدة إيران: “إيران لا تستسلم”). وكان أيضاً واحداً من خمسة مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى وضعهم قاضٍ أرجنتيني في خانة المشتبه بهم في أواخر العام الماضي في التفجير الذي استهدف مركزاً اجتماعياً يهودياً عام 1994 في بوينس آيرس وأدّى إلى مقتل 85 شخصاً (اعتبرت إيران أنّ التهم “لا أساس لها من الصحّة”).
تشير الجهود التي يبذلها رضائي للتخاطب مع الآخرين، إلى أنّ سياسة الإكراه الديبلوماسي التي تتّبعها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تنجح، إلى درجة ما على الأقل. لقد بدأت إيران تتعب من عزلتها الاقتصادية والسياسية، ويبقى المسؤولون الرفيعو المستوى في طهران قلقين من احتمال شنّ هجوم عسكري أميركي. والآن إيران متحمّسة للتجاوب مع البرادعي الذي يطالب بوضوح أكبر حول التاريخ غير الشرعي لبرنامجها النووي – إلى درجة أنّ لاريجاني التقاه مرّتين الأسبوع الفائت.
ما ليس واضحاً هو ما إذا كانت إدارة بوش ستقبل ب”تعليق موقّت” لأنشطة التخصيب الإيرانية بدلاً من وقفها في شكل كامل. وعلى الرغم من تمنّيات رضائي، ليس واضحاً أيضاً أنّ بوش تخلّى عن السعي إلى تغيير النظام؛ من هنا “التقرير الرئاسي” الذي وقّعه بوش حديثاً ويجيز لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) تنفيذ عمليات غير مهلِكة لمضايقة النظام الإيراني. بعد عزل طهران ديبلوماسياً، يبدو أنّ إدارة بوش تكتفي بالانتظار حتى “ينهار” النظام.
لكن بعد زيارتي الأخيرة لإيران في أواخر حزيران والتي استمرّت عشرة أيام أمضيت معظمها في طهران، بتّ مقتنعاً بأنّ أيّ آمال بأن إيران سوف تستسلم مضلّلة جداً. أجل، يتعرّض النظام للضغوط، لكنّه لا يوشك بأن يصبح في وضع حرج اقتصادياً، على الرغم من خطوته الأخيرة لتقنين البنزين، الأمر الذي أثار احتجاجات عنيفة. تملك المتاجر مخزوناً كبيراً، والشوارع مليئة بالمتبضّعين، وتنتشر متاجر الزهور وسلع الترف بكثرة، ما يعني أنّ الناس في هذا البلد الغني بالنفط ما زالوا يملكون مدخولاً كبيراً قابلاً للإنفاق. تخلّف عقوبات الأمم المتحدة والضغوط الهادئة على المصارف الدولية لوقف التعامل مع إيران بعض الأضرار، لكنّها في شكل عام تسبّب الإزعاج فحسب ولا تؤدّي إلى تعطيل الصفقات. والعقوبات مليئة بالثغرات: تنشط التجارة بين الشركات الأوروبية والشركات الإيرانية، وقد تحوّل الإيرانيون للتو في معاملاتهم التجارية من الدولار إلى الأورو. كما أنّ مجهود بوش الضعيف الذي يخصّص له 75 مليون دولار من أجل ترويج الديموقراطية في إيران لا يكتسب زخماً. في حين ركزت معظم وسائل الإعلام الغربية في الأسابيع الأخيرة على توقيف أربعة أميركيين إيرانيين ارتكبوا خطأ العودة إلى ديارهم في وقت تشعر فيه الحكومة بالبارانويا من المؤامرات الأميركية أكثر من أيّ وقت آخر، بالكاد أتت الأنباء على ذكرهم في طهران. في الواقع، كان التأثير الأبرز لبرنامج بوش منح النظام تبريراً لقمع المنشقّين من جديد.
على الرغم من ذلك، تشير تعليقات رضائي ولاريجاني إلى أنّ إيران ربّما تعرض على إدارة بوش الذي بقي له 18 شهراً في الرئاسة، فرصة أخيرة لبناء علاقة جديدة بين البلدين.
سبق للإدارة الأميركية أن تجاهلت هذه الفرص مرتين على الأقل. في أواخر 2001، قدّمت إيران مساعدة لا تُقدَّر بثمن في تثبيت حكومة ما بعد “طالبان” بقيادة حميد كرزاي في أفغانستان، حيث تعهّدت بتقديم مساعدة بقيمة 550 مليون دولار (توازي تقريباً المبلغ الذي تعهّدت به الولايات المتّحدة) في مؤتمر للمانحين في كانون الثاني 2002. بعد أسبوع، أعلن بوش أنّ إيران هي جزء من “محور الشرّ” في “خطاب حالة الاتحاد” الثاني – وكان هذا صدّاً مؤلماً لا يزال الإيرانيون يتحدّثون عنه بمرارة. ثم في ربيع 2003، استخدم الإيرانيون الوساطة السويسرية المعتادة ليرسلوا بالفاكس اقتراحاً من صفحتين إلى وزارة الخارجية الأميركية حول محادثات شاملة لا سيّما نقاشات حول “مقاربة الدولتين” للمسألة الإسرائيلية-الفلسطينية. وهذا أيضاً جرى تجاهله.
ويواجه فريق بوش أيضاً خطر هدر الفرصة الحالية التي تتيحها إيران. يبدو أنّ الإدارة الأميركية لا تدرك أنّ الإكراه الديبلوماسي لا ينجح وحده – ليس مع بلد جعل من برنامجه النووي حملة وطنية. ومن النادر جداً أن نسمع المسؤولين الأميركيين الرفيعي المستوى يقرّون بأنّ الولايات المتّحدة وإيران تتشاطران بعض المصالح الحسّاسة. وصفت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، في طاولة مستديرة مع هيئة التحرير في “وول ستريت جورنال” في 8 حزيران، العلاقة الأميركية-الإيرانية ب”لعبة غالب ومغلوب في شكل عام”، واعترفت أنها لا تستطيع أن تفهم إيران: “أظنّ أنّه مكان مبهم جداً، إنّه نظام سياسي لا أفهمه جيداً”.
حاول رضائي جاهداً تبديد هذا الانطباع عن التصادم المحتوم بين المصالح الأميركية والإيرانية. فقد لفت إلى أنّ إيران هي البلد الوحيد الذي يستطيع أن يساعد واشنطن دفعة واحدة على ضبط الميليشيات الشيعية في العراق، والحدّ من وتيرة عودة “طالبان” في أفغانستان وترويض وجود “حزب الله” الذي لا يزال خطيراً في لبنان. فقد قال “إذا اتبعت أميركا مقاربة مختلفة وتخلّت عن مواجهة إيران، فسيشهد تعاطينا معها تغيّراً جوهرياً”.
ونتيجة الأحاديث التي أجريتها مع متشدّدين وإصلاحيين في طهران، تكوّن لديّ أيضاً انطباع أعمق: في ظل الظروف المناسبة، قد تبدي إيران استعداداً للتوقّف عن بناء قنبلة نووية. يقول محمد حسين عادلي، السفير الإيراني السابق المعتدل واللبق في لندن: “ترغب إيران في امتلاك التكنولوجيا، وهذا كافٍ للردع”.
وماذا عن المصالح الأخرى المتداخلة؟ لنبدأ بالعراق، المكان الوحيد حيث يبدو أنّ واشنطن تقرّ بحاجتها إلى المساعدة من طهران حتّى بينما تستمرّ الإدارة الأميركية في اتّهام إيران بتزويد المقاتلين العراقيين قنابل متطوّرة إيرانية الصنع. قال رضائي إنّ حكومة رئيس الوزراء العراق نوري المالكي التي يسيطر عليها الشيعة “هي ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إلينا”. وتابع “نريد أن تبقى هذه الحكومة في السلطة. تعارض البلدان السنّية المعادية المالكي. أمّا نحن فلا”. ومن المنطقي أيضاً أنّه في أفغانستان ولبنان و”حماستان” الجديدة في غزّة – كل الأماكن التي تمارس فيها طهران تأثيراً كبيراً – من شأن تشجيع إيران على تأدية دور أمني إقليمي أكبر أن يدفعها إلى إبداء تعاون أكبر.
لا شكّ في أنّ المشكلة الكبيرة هي علاقة إيران المسمومة مع إسرائيل، لا سيّما إنكار الرئيس محمود أحمدي نجاد وقوع المحرقة اليهودية والتهديدات التي يطلقها في اتّجاه أحد حلفاء الولايات المتحدة. لكنّ العديد من المسؤولين الإيرانيين لمّحوا إلى أنّ أحمدي نجاد تجاوز خطاً أحمر في السياسة الإيرانية عندما ذهب بخطابه إلى أبعد من التمنّي الرسمي بأن تختفي إسرائيل ذات يوم ليوحي بأنّه يمكن طهران أن تساعد في تلك العملية. وأشاروا إلى أنّه من شأن رئيس إيراني جديد أن يعيد إرساء التوازن في ذلك الموقف.
غير أنّ الإيرانيين أنفسهم يدركون أنّه من غير المحتمل أن يحصل تحوّل أكثر دراماتيكية في السياسة في عهد بوش. قال رضائي “حكومة السيّد بوش عالقة عند مفترق” بين المواجهة والانخراط، و”لا يمكنها اتّخاذ قرار”. وتابع “ثمّة قول مأثور بالفارسية مفاده أنّه عندما يسير ولد في العتمة، يبدأ بالغناء أو بإصدار ضجّة عالية لأنّه خائف من الظلام. الأميركيون خائفون من التفاوض مع إيران، ولهذا يصدرون الكثير من الضجيج”. سواء كان هذا صحيحاً أم لا، لا شكّ في أنّ ضجيجاً جديداً يصدر عن طهران. وينبغي على واشنطن أن تصغي.
عن “واشنطن بوست”
ترجمة نسرين ناضر
مايكل هيرش
( محرّر رفيع المستوى في مجلة “نيوزويك”)