تتواصل انفجارات بركان الشرق الأوسط الكبير من كوباني- عين العرب، حتى صنعاء، مرورا ببلاد ما بين النهرين، ولا ينأى لبنان عن تطاير بعض الحمم من جرود البقاع إلى جنوبه، ولكن حصر التوتر عبر حرائق متنقلة يعود لنوع من التحصين الدولي لساحته وعدم استعجال إقليمي لامتداد الاشتباك إليه.
في التاسع من أكتوبر، تم إرجاء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية للمرة الثالثة عشرة منذ مايو، مع ما يعنيه ذلك من استمرار المأزق السياسي ومحاذير تطبيع عمل المؤسسات من دون وجود رأس الدولة. وقبل ذلك صدر تحذير عن أوضاع لبنان من جانب أكبر المؤسسات الدولية: صندوق النقد العالمي والبنك الدولي، وهو يتمحور أولاً حول تداعيات استمرار النزوح السوري الكثيف على المالية العامة والنسيج الاجتماعي، وثانياً المأزق السياسي المحلي المستمر، الذي أفرغ الرئاسة الأولى من موقعها ويهدد بفراغ في السلطتين الأخريين، أي التشريعية والتنفيذية، وثالثاً عدم تنفيذ لبنان الإصلاحات الهيكلية التي طال الحديث عنها من دون جدوى، مع ما لها من أهمية حاسمة في تعزيز الثقة بالاقتصاد ومناخ الأعمال وقدرة الحصول على التمويل.
بالرغم من الشغور الرئاسي وشكوك المؤسسات المالية الدولية، لا يزال الاقتصاد اللبناني يقاوم. ويقول الخبير مروان اسكندر في هذا الصدد: “رغم كل مشاكلنا استطعنا المحافظة على قطاع مصرفي سليم، والحركة الاقتصادية على تقزمها لا تزال منافسة في معدل النمو لمجموعة الدول الأوروبية”.
هكذا بالرغم من حروب متنقلة من 1975 حتى 1990، ومن كل ما شهدته بلاد الأرز منذ 2005 حتى اليوم، لا يزال اللبناني المتشبث بوطنه أفضل ضمانة لعدم سقوط الدولة خاصة أن مناخ الحريات، رغم كل شوائب النظام السياسي، لا يفقد الأمل بابتداع تسويات لتخطي العثرات. هل رأيتم بلدا في المنطقة تتنافس باريس وواشنطن وموسكو، كما الرياض وطهران، على تسليح جيشه. وهذه التعددية في المصادر تعبّر عن لبنان التعددي، وعلى أن التركيبة اللبنانية ترفض أي مشروع هيمنة داخلي أو خارجي، وأن هذا البلد الفريد بتنوعه الكبير يخفي في طياته عناصر ضعفه ومخاطر اهتزازه عند اشتداد العواصف الخارجية واهتزاز التوازنات.
بالنسبة للقوميين اللبنانيين العقائديين أمثال سعيد عقل: “لا يقاس لبنان بالديمغرافيا والجغرافيا بل بالتبادع وبالجودة والنوعية والإشعاع، وبمدى قدرته على الاسهام الحضاري، وبالطموحات والرؤى”. وهذا الكلام المنمق والشاعري فيه بعض الحقيقة، لكن لبنان على مسافة ست سنوات من المئوية الأولى لولادة “لبنان الكبير” الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو، بحاجة إلى وقفة مع الذات تتخطى العواطف والأمجاد وتشادّ القوميات، لأن اللحظة المصيرية في كل الإقليم، يمكن أن تجعل كيانه قيد الدرس خاصة على ضوء أزمة النظام الحادة التي طبعت تاريخ الدولة منذ الاستقلال في عام 1943، ونتيجة التغيير في التركيبة السكانية الأساسية، إضافة إلى حصة النازحين السوريين والفلسطينيين التي تقترب من ثلث السكان.
مع تهاوي منظومة سايكس- بيكو، إلى جانب صعود الأصوليات وقوى الإقصاء والهيمنة ومشاريع القوى الإقليمية المتربصة (إسرائيل وإيران وتركيا)، لم يتمكن لبنان من النأي بنفسه عن الحريق السوري بسبب انغماس حزب الله في النزاع وتحركات الجماعات السورية المسلحة على الحدود. وإذا كان الجيش اللبناني لا يزال القاسم المشترك الداخلي والإقليمي والدولي لحماية لبنان، ففي ذلك طمأنة نسبية لأن ذلك مرتهن بالاستقرار السياسي وعدم التصعيد الإقليمي.
يراهن البعض في لبنان، على العامل الخارجي لتسهيل انتخاب الرئيس، والترياق المنتظر من باريس وطهران والرياض بعد وساطة فرنسية منتظرة، يمثل تقليدا درجت عليه الطبقة السياسية اللبنانية، إذ أنه ربما لمرة واحدة تم انتخاب رئيس للجمهورية في انتخابات فعلية دون التأثير الخارجي (انتخاب سليمان فرنجية عام 1970).
بيْد أنه في سياق الأحداث المتسارعة، تعرب مصادر دبلوماسية غربية عن خشيتها من أن يكون لبنان يقترب من حافة الهاوية، لأن الرقص على الحبل المشدود من قبل حزب الله، يمكن أن يكون شديد الخطورة، إذا لم يتم تحصين الوضع عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وانتزاع حد أدنى من التوافق الإقليمي لإبعاد الكأس المرّة عن لبنان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب