هل سقط لبنان نهائيا في الفخّ الذي نصبه له “حزب الله”، ومن خلفه ايران؟ يطرح السؤال نفسه بجدّية عندما يجد المواطن العادي نفسه امام ظاهرة لا سابقة لها في البلد تتمثّل في تمجيد ما قام به مقاتلو الحزب، الذين يشكلون ميليشيا مذهبية، في جرود عرسال. لعلّ اخطر ما في الامر ان هناك بين اللبنانيين، من المسيحيين خصوصا، من يعتقد ان “حزب الله” يخوض حربا على الإرهاب وانّه يحمي المسيحيين، في حين انّه موجود في سوريا من منطلق ارتباطه بالاستراتيجية الايرانية ولا شيء آخر غير ذلك…
مرّة أخرى، من المناسب تذكير اللبنانيين بما هو “حزب الله” وطبيعة تكوينه ودوره في تغيير طبيعة قسم كبير من أبناء المجتمع الشيعي في البلد، بما في ذلك تغيير أسلوب حياة هؤلاء وطريقة تعاطيهم في ما بينهم ومع اللبنانيين الآخرين. هل كان تمييز بين السنّي والشيعي في لبنان قبل صعود نجم “حزب الله” وقبل دخوله في مواجهات مع اهل بيروت.
لا حاجة الى التذكير في ايّ وقت انّ “حزب الله” استهدف التغلغل في بيروت. اعتمد في البداية الحلول مكان المسيحيين في بيروت الغربية التي كانت فيها دائما احياء مختلطة في المصيطبه والمزرعة والوتوات وزقاق البلاط والخندق الغميق ورأس بيروت، على سبيل المثال وليس الحصر. لم يترك فجوة الّا وتسلل الحزب منها كي يصبح له وجود طاغ في بيروت السنّية وذلك تمهيدا ليوم مثل يوم السابع من أيار – مايو 2008، حين شنّ غزوة بيروت التي ترافقت أيضا مع غزوة الجبل، مع تركيز خاص على الدروز.
منذ اليوم الاوّل الذي ظهر فيه “حزب الله”، كانت هناك مواجهة بينه وبين الدولة اللبنانية، بل بينه وبين لبنان وفكرة لبنان تحديدا. ليس سرّا ان الحزب عمل كلّ شيء من اجل تقليص حجم حركة “امل” وتحويلها الى ما هي عليه الآن. تبقى معارك إقليم التفّاح خير شاهد على ذلك. ليس سرّا أيضا ان الحزب كان في مواجهة دائمة مع الجيش اللبناني. ليس ما يدعو الى تكرار ما يذكره ضباط في الجيش عن طبيعة هذه المواجهة وعدد ضحاياها… وصولا الى اغتيال الضابط الطيّار سامر حنّا في العام 2008 بحجة انّه حلق بطائرته في منطقة لبنانية محظورة على الجيش اللبناني!
هذا غيض من فيض ممارسات “حزب الله” وما قام به وما زال يقوم به. ولكن يبقى الاهمّ من ذلك كلّه ان الحزب عمل دائما على تقويض مؤسسات الدولة اللبنانية وعلى عزل لبنان عن محيطه العربي. لا ينفع كلام السيّد حسن نصرالله الأمين العام للحزب عن الكويت وعن حرص الحزب، ومن خلفه ايران على هذا البلد العربي الخليجي. يظل “حزب الله” متورطا الى ما فوق اذنيه في لعبة إيرانية تقوم على اثارة الغرائز المذهبية وتشجيع الشيعة الخليجيين على ان يكونوا مختلفين عن المجتمعات التي يعيشون فيها. من حسن الحظ ان في الكويت اميرا حكيما وعاقلا هو الشيخ صُباح الأحمد لا يفرّق بين مواطن وآخر ويعتبر الكويت لكل الكويتيين. امّا السبب الذي يدعو “حزب الله” الى الإشادة بالشيخ صُباح والى التبرّؤ من دوره في ما يسمّى “خليّة العبدلي”، فهو عائد الى الرغبة في استغلال الخلافات الخليجية – الخليجية القائمة حاليا الى ابعد حدود. الاكيد ان مناورات “حزب الله” لن تمرّ على الكويتيين الذين يعرفون من حاول اغتيال امير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
من ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية الواحدة تلو الأخرى، الى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه ومحاولة اغتيال مروان حماده قبل ذلك بأربعة اشهر ونصف شهر، ثمّ الاغتيالات الأخرى، تتضح المهمّة التي يقوم بها “حزب لله” وسلاحه غير الشرعي الذي ورث السلاح الفلسطيني بعد العام 1982.
ليس ما يدعو الى السقوط مرّة أخرى في لعبة تبسيط الامور واطلاق شعارات من نوع انّه لولا “حزب الله”، لكان “داعش” في جونيه. لم يحم “حزب الله” المسيحيين يوما. لو كان المسيحيون بخير، لما كان رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، اقام في الرابية الواقعة في المتن في السنوات التي تلت عودته الى لبنان من منفاه الفرنسي في العام 2005. كان طبيعيا ان يقيم ميشال عون في حارة حريك التي هي مسقط رأسه. هل يسأل المسيحيون اللبنانيون المتحمّسون لـ”حزب الله” انفسهم في لحظة يستعيدون فيها بعض الوعي، لماذا كان ميشال عون من سكّان الرابية وليس من المقيمين في حارة حريك القريبة من بيروت قبل انتخابه رئيسا في تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي؟
بدل الدخول في لعبة حدّد “حزب الله” ومن يقف خلفه شروطها ومواصفاتها، من المفيد للبنانيين عدم الاكتفاء بالعودة الى تاريخ الحزب وما قام به الحزب، خصوصا عندما افتعل حرب تموز – يوليو من العام 2006 لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري التي كانت كارثة على لبنان واللبنانيين.
في المقابل، يفترض باللبنانيين، خصوصا بالمسيحيين منهم، السعي الى فهم معنى تورط الحزب في حرب على الشعب السوري خدمة لإيران. من اخطر ما اسفر عنه هذا التورّط الغاء الحدود المعترف بها دوليا بين دولتين مستقلتين هما لبنان وسوريا. الصحيح انّ “حزب الله” تجاوز ما يسمّى خط الحدود الذي رفض النظام السوري تثبيته يوما بسبب اطماعه في لبنان، وقرّر تكريس امر واقع. يتمثّل هذا الامر الواقع في ربط أراض سورية معيّنة باراض تقع تحت السيطرة المباشرة لـ”حزب الله” في لبنان من منطلق مذهبي بحت. هناك سابقة في غاية الخطورة تعمل ايران على تعميمها وصولا الى تحقيق ما يسمّيه المسؤولون فيها “البدر الشيعي”. تتمثّل هذه السابقة في جعل الرابط المذهبي يتجاوز كلّ ما عداه في المنطقة، بما في ذلك الحدود المعترف بها دوليا بين الدول.
ليس معروفا اين مصلحة لبنان في دخول لعبة من هذا النوع في وقت يعاد فيه تشكيل المنطقة وفي وقت لم تحدّد الإدارة الاميركية بعد سياستها السورية، على الرغم من مضي سبعة اشهر واكثر على دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.
يواجه لبنان في هذه المرحلة مخاطر عدّة. يمرّ البلد بسبب الظروف الإقليمية وبسبب سعي ايران الى عزله عن محيطه العربي، خصوصا الخليجي، وتوريطه في سياسات لا علاقة له بها، بمرحلة في غاية التعقيد. لذلك، من الضروري اكثر من ايّ وقت التنبه الى المخاطر. يبدأ ذلك بعدم الاستخفاف بتجاوز “حزب الله” الدولة اللبنانية وتنصيب نفسه حاميا لتلك الدولة وللمسيحيين اللبنانيين.
ارتكب المسيحيون في العام 1969 جريمة القبول باتفاق القاهرة. كان في استطاعتهم، عبر زعمائهم ونوابهم، تسجيل موقف اعتراضي على الاقلّ. ما يمرّ به البلد حاليا اشد خطورة من مرحلة ما قبل اتفاق القاهرة. هناك فخّ إيراني ينصب للبنان. وحده الموقف الواضح من السلاح غير الشرعي الذي تحمله ميليشيا مذهبية معروف لمن هو ولاؤها يمكن ان يكون نقطة بداية لاستعادة بعض الوعي والتنبّه لما يدور في المنطقة وما هو المحكّ فعلا. على المحكّ مستقبل لبنان، كدولة مستقلّة، واللبنانيين بكلّ بساطة.