لبنان والغرب و”حزب الله”
حازم صاغيّة
لقي دعم «باريس – 3» للبنان ولحكومة فؤاد السنيورة نقداً وجيهاً، ولو أنّه بديهيّ. ومفاد النقد، المحمّل بالشكّ: كيف يمكن تقديم المبلغ الضخم الذي قُدّم فيما البلد الممنوح منقسم على الهيئة التي أبانها إضراب الثلثاء؟
والحال أن صحّة السؤال وبديهيّته لا تلغيان رغبة أصليّة عند طارحيه في تحويله الى سؤال: فالمطلوب من الإضراب تقديم الصورة التي تجعل الدعم مستحيلاً، أو على الأقلّ متردّداً، فإذا لم يحصل هذا أو ذاك بات الطعن جائزاً بمقاصد الداعم والمدعوم. صحيح أن ضخامة المبلغ مرفقة بتوجّه غربيّ، لا سيّما أميركيّ، الى التصعيد ضدّ إيران وحلفائها. أمّا في ما خصّ لبنان، فباريس – 3 وثيقة إصرار على عدم تركه يسقط في محور طهران – دمشق كائناً ما كان الثمن. فإذا ما أدرجنا هذه التقديرات في سياق أعرض، تبيّن أن ذلك لا يعدو كونه عملاً دفاعيّاً بحتاً: ذاك أن لبنان الحديث، منذ نشأته، نقطة تتوازن فيها علاقات «العرب» و «الغرب» وتستقرّ. هكذا كان استقلال 1943، ثم الشهابيّة، وبعد ذاك اتّفاق الطائف. ولئن وجدت المعادلة المذكورة تسويغها في تركيبة البلد ووظائفه التقليديّة، كما في مقدّمات الحداثة التي تقيم فيه، فإن عوامل مستجدّة شرعت تعكس ذاتها عليه إيجاباً وسلباً. ذاك أن «العرب»، أي سوريّة والسعوديّة ومصر بوصفها الأطراف الوازنة، ماديّاً أو معنويّاً، في لبنان، باتت أكثريّتهم أقرب الى «الغرب» مما كانت الحال في المناسبات السابقة. وبدورها، فإن أقليّتهم هجرت تصنيفها كـ «عرب»، بالمعنى الاستراتيجيّ للكلمة، لتنضاف الى الخانة الإيرانيّة، فيما باتت علاقتها بـ «الغرب» حدّيّة على نحو لا يقبل المساومة.
وهذا ما يحمل، لبنانيّاً، وتبعاً للمعادلات المعهودة، على الارتياح الى التحوّل الذي أصاب الأكثريّة العربيّة، لأنّه يقصّر المسافة التي ينبغي عبورها بين طرفين كانا أقصيين. بيد أنّه يعني أيضاً صعوبة التوفيق، إن لم يكن استحالته، بين المنطق التسوويّ العميق الذي قام عليه لبنان ومنطق الأقليّة العربيّة وحلفائها الراديكاليّين.
ترافق ذلك مع تحوّل داخليّ بارز ترتّب على اغتيال الرئيس الحريري، مفاده أن الطائفة السنيّة انحازت الى مشروع الدولة والوطن اللبنانيّين «أوّلاً»، فتضاعفت الأسباب التي تحمي فكرة لبنان – التوازن، فيما غدت معارضته خروجاً انقلابيّاً تامّاً على المعادلات التقليديّة. ذاك أن إيران لم تكن مرّةً الطرف الذي على لبنان أن يوائم بينه وبين الغرب. أمّا في الداخل، فلم تحل شعبيّة «حزب الله» المؤكّدة دون غربته عن العناصر التي صيغت منها الأسطورة التأسيسيّة للبنان، وهي ما تتواضع الشعوب عليه كيما تعيش معاً. فالسيّد موسى الصدر، مثلاً، ظلّ يسعى، الى ما قبل انفجار النزاع الأهليّ أواسط السبعينات، الى مصالحة تلك الأسطورة التأسيسيّة ومدّ الجسور مع أدواتها المؤسسيّة من «الندوة اللبنانيّة» الى جريدة «النهار». وكان واضحاً له أن نيله مطالبه المحقّة مشروط، كما في كلّ مجتمع سبق أن تأسّس، باندراجه في إجماعات الأسطورة التأسيسيّة تلك. لكن «الحزب»، على عكس الصدر، أطاح أهمّ أعمدة تلك الأسطورة، أي فكرة التسوية بين «العرب» و «الغرب»، من دون أن يلوح في سرده ذكر لفخر الدين المعنيّ، أو لبيروت، الحاضرة الكوزموبوليتيّة مثلاً، أو حتّى لصور أو قلعة الشقيف، أو لأيّ اسم أو رمز انطوت عليه الأسطورة في سياق توكيدها على دور لبنان المذكور.
ولأن التاريخ ليس مقفلاً، كان في وسع الحزب أن يُقحم روايته الجزئيّة في الرواية السائدة. وكان في وسعه أن يقول إنه كان ليفضّل سياسات غربيّة أخرى غير المعمول بها، أو سياسات عربيّة مختلفة يتوسّط لبنانُ بينها وبين الغرب. وهو ما كان ليلقى تأييداً واسعاً من لبنانيّين خارج الحزب، وخارج الطائفة الشيعيّة، لا يحول تواضعهم في ما يطرحونه على بلدهم الصغير دون أخذهم بقناعات تغاير قناعات فؤاد السنيورة في الاقتصاد أو في العلاقات العربيّة والغربيّة. لكن الحزب، فضلاً عن وظيفته القتاليّة التي تقود، تعريفاً، الى الصدام بالعالم الخارجيّ، يكلّف لبنان ما يتعارض كليّاً مع وظيفته. فهذا البلد لم يتعلّم إلاّ من «الغرب» إقامة برلمان وحريّة صحافة وتنظيم حزبيّ ونقابيّ. وفي تقليده «الغرب» بنى أوضاعاً متقدّمة نسبيّاً للمرأة. ومن دون الصلة المتينة بـ «الغرب»، لا اقتصاد لبنانيّ، كائناً ما كان الحجم الذي سيحتلّه قطاع الخدمات، وكائنةً ما كانت نسب توزيع الثروة. وقس على ذلك في ما خصّ التعليم والاستشفاء وسائر المجالات التي من دونها لا يقوم بلد ولا من يحزنون.
وهذا، معطوفاً على إحلال إيران محلّ بعض العرب، يظهّر صورة «حزب الله» كطرف برّانيّ، برّانيّته تخيف لبنانيّين كثيرين وتخيف العالم الخارجيّ، بحيث يتبدّى كلّ دعم للبنان دعماً لإبقائه لبنان.
(الحياة)