يغري الكلام عن ميشال عون بسلوك طريق التبسيط. فهو بسيط وحجج أنصاره أبسط. وميل بعض المسلمين إلى إسباغ صفات على المسيحيّين تؤمثلهم بوصفهم «غربيّين» وأنصاف «غربيّين»، يجعل الاندهاش مكمّلاً للتبسيط: إذ كيف لميشال عون أن يقود أمثال هؤلاء، أو يقود جزءاً كبيراً منهم؟
لكنّ بساطة الأخير ينبغي ألاّ تغري بالتبسيط. فهي صعبة ومعقّدة، مع أنّها بساطة، لا سيّما حين تغدو، إلى هذا الحدّ أو ذاك، «جماهيريّة»؟ أليست الانتخابات هذه استفتاء على ميشال عون قبل أيّ شيء آخر؟ ألم يُزح عون مئات قليلة من آلاف المسيحيّين عن كلّ ثوابت الموقف التقليديّ لطوائفهم، واضعاً إيّاهم على مقربة من سوريّة البعثيّة وحلفائها، وفي مواجهة «الغرب»، أميركيّاً كان أم فرنسيّاً، والبطريركيّة المارونيّة، ورئاسة الجمهوريّة، وعائلات شمعون والجميّل وإدّه وأحزابها، أي الأحرار والكتائب والكتلة، فضلاً عن جريدة «النهار» بوصفها المنبر الأهمّ لصناعة الوعي السياسيّ المسيحيّ. وهي مواقف كان واحدنا ليألفها في سياسيّين كنجاح واكيم أو ميشال سماحة أو أسعد حردان، أو حتّى جورج حاوي، أمّا أن يلقاها في أكثر السياسيّين المسيحيّين شعبيّة فهذا ما يرقى إلى انقلاب تاريخيّ مهول.
وقد يقال، وهو قول صائب، إن رفيق الحريري وحده مَن نقل طائفته من موقع إلى موقع، بالمعنى الذي فعله عون. إلاّ أن الفارق كبير بين أن تتولّى جريمة اغتيال ذلك، وأن يتمّ بوعي ومبادرة حيّين.
وعون، في آخر المطاف، خلاصة المسيحيّ العاديّ: ما من شيء باهر فيه وما من كاريزما يتفرّد بها، لكنّه المرشّح الدائم لأن يكون الأخ الأكبر أو الأب الحميم. فالمواطن الصغير، «المغلوب بالدنيا»، يشاطره غضباً غير مسيطَر عليه وتعبيريّة نزقة وكلاماً عاميّاً لا يتورّع عن لعن الحياة و»النظام» انطلاقاً من اختناق السير أو ارتفاع بسيط في سعر الخضار أو خبر غير سارّ في جريدة. وهذا ما يتوّج نفسه عقداً بين الاثنين، يرنو التابع بموجبه إلى الخلاص من الآفات الشريرة، فيما يتقدّم المتبوع بوصفه المخلّص. والأخير صريح، لا أسرار لديه، «شفّاف»، لا يدانيه «الفساد» من يمين أو يسار. وهي كلّها رغبات وانحيازات معروفة ومرئيّة يوميّاً في شوارعنا وفي سيّارات السرفيس ومداخل الأبنية. بيد أن المواصفات المرغوبة تلك تجعل السياسيّ (الذي لا يملكها) يبدو سياسيّاً، أي غريباً عن «الواقع» وعن «الشعب»، والمسافة قصيرة بين الغرابة والغموض والفساد والتآمر. هكذا يسع «الزعيم» الشعبويّ الذي يمتلك المواصفات تلك، في ظرف من الإحباط يستدعيها، أن يُلزم السياسيّ بموقع دفاعيّ يغدو مضطرّاً معه لتبرير عدم امتلاكه إيّاها. وما يصحّ في سياسيّين كبطرس حرب أو نسيب لحّود أو كارلوس إدّه أو سواهم، يصحّ، من زاوية مغايرة، في سمير جعجع الذي هو أيضاً «غير عاديّ» بطريقته. فإطلالة تلفزيونيّة واحدة لقائد «القوّات اللبنانيّة» تكفي كي يتيقّن الناظر من أنّه، بلغته الجسمانيّة ومحاولاته التعليميّة، يشذّ عن العاديّة. فإذا كان عون يطلق العنان لتوتّره، متماهياً مع جمع متوتّر، فإن جعجع لا يكفّ عن كبت توتّره، وفي ذلك ما يبعّد ويضفي الغرابة كما يثير الاستغراب الذي يثيره المنطوي الخجول، أو ربّما الساحر.
وحجج المسيحيّ العاديّ الملتفّ حول «الجنرال»، حجج عاديّة، بمعنى اعتمادها على المنظور والمباشر الذي لا يرقى النقاش إلى حقيقة حصوله الفيزيائيّ: ذاك أن «الجيش السوريّ – كما تقول المساجلة الصغيرة – خرج من لبنان»، وهو خرج فعلاً، كما أن «السلفيّة السنّيّة خطر على لبنان»، وهي خطر فعلاً، وعون سبق له أن «قاتل الجيش السوريّ»، وهو قاتله فعلاً. لكنّ تلك الحجج «الصحيحة» تطرد التحليل والتفحّص المركّب، من نوع أن مطامع الدول لا تقتصر على الحضور العسكريّ المباشر، وأن السلفيّة السنّيّة لا تملك مشروعاً ولا تتجسّد في جيش أو سلطة موازية، وأن القتال ضدّ الجيش السوريّ أو غيره لا ينفصل عن سياسة وعن تقدير للموقف وخلاصاته.
على أن عون يمتاز عن سائر منافسيه على الزعامة المسيحيّة، وتحديداً المارونيّة، بميزة أخرى: فإذا بدا جعجع لكثيرين بشراويّاً، وأمين الجميّل متنيّاً، وبطرس حرب تنّوريّاً، وهو أيضاً ما ينطبق على الحليف الزغرتاوي سليمان فرنجيّة، فإن «المنطقة» تتوارى في تحديد (إبن حارة حريك… سابقاً!) ميشال عون. وهذا ما يضعف الخاصّ المناطقيّ فيه لمصلحة العامّ الطائفيّ الذي يبدو كأنّه منزّه عن العصبيّات الصغرى والجزئيّة لصالح العصبيّة الكليّة الكبرى. هكذا يصلّي ميشال عون، لا خارج «المناطق» وحساباتها، بل خارج لبنان أيضاً، فيقام له القدّاس الطقسيّ والاحتفاليّ الصاخب في كنيسة مارونيّة أثريّة في سوريّة. ولا يفوتنا التذكير بأن الذين سبقوا عون إلى إلهاب المخيّلة المسيحيّة اقتصدوا، كلّ على طريقته، في التعبير عن مناطقيّتهم. فبشير الجميّل لم يكن، كأخيه، متنيّاً، بل انطلق من الأشرفيّة، وهي «عاصمة» النصارى السياسيّة، ليوحّد بنادق الجماعات والمناطق في بندقيّة الطائفة. ومن يعرف الحساسيّات التي خلّفتها بشراويّة سمير جعجع في بيئات قوّاتيّة غير بشراويّة، يدرك الجاذبيّة السياسيّة التي يملكها التعالي المناطقيّ. وقبلذاك تولّت مواقف كميل شمعون الإقليميّة والدوليّة، من وظيفته في الأمم المتّحدة إلى مناطحته السياسة المصريّة، تخفيف شوفيّته وجعل زعامته محلّ تبنٍّ مسيحيّ شامل. فحين انتهت ولايته الرئاسيّة خاض معركته الانتخابيّة في المتن الشماليّ وكثيراً ما ساوره نقل مقرّه الزعاميّ إلى الأشرفيّة.
تمارين على العداء
وعون، إلى هذا، يحمل من المواصفات الأخرى ما أطنب فيه المعلّقون: من كونه «غير تقليديّ» يستجيب حساسيّة اجتماعيّة متينة في الوسط المسيحيّ الكاره لزعامات ملاّكي الأرض والمستفيدين تقليديّاً من الفساد و»الدولة المزرعة»، إلى كونه «غير ميليشياويّ» بما يغذّي صورة عداليّة تستهوي العاديّة البورجوازيّة، الصغير منها والكبير، فضلاً عن صدوره عن الجيش بوصفه المؤسّسة التي أوكلت إليها الثقافة السياسيّة اللبنانيّة دوراً متعالياً وخلاصيّاً.
لكنّ العونيّة لا تقف عند الحدّ هذا: فهي، عبر صدامها الرأسيّ بـ»القوّات اللبنانيّة»، تتصرّف كمن يمارس فعل تطهّر وتطهير للمسيحيّين من شائبة الميليشيا، مداويةً نرجسيّتهم الجريح بما يقدّمهم على شكل طهرانيّ منقّى يلفظ المسيئين «إلى صورتنا». إلاّ أنّها، وعبر صداميها الرأسيّين بالسنّة (المستقبل-الحريري) والدروز (الاشتراكيّ-جنبلاط)، تعيد النظر، اعتراضاً وانقلاباً، على الصيغتين المؤلّفتين للبنان الحديث: الصيغة النواة في الجبل-المتصرفيّة، حيث التعاقد مارونيّ-درزيّ، والصيغة الموسّعة للبنان الكبير، حيث التعاقد مارونيّ-سنّـيّ.
والحال أن الطائفيّة المسيحيّة هي تقليديّاً تمرين على العداء للدرزيّ في لبنان الصغير، ثم السنّـيّ منذ 1920، تماماً كما أن الطائفيّتين التقليديّتين الدرزيّة والسنيّة تمرين على العداء للمسيحيّ، لا سيّما المارونيّ. وعلى امتداد هذا الزمن كلّه، وصولاً إلى اتّفاق الطائف، لم يكن الشيعة في مطال التناول الطائفيّ المسيحيّ، وإن مكثوا في مطال تعاليه وعنجهيّته. ذاك أن «المتاولة» كانوا وظلّوا طويلاً خارج التنازُع على المواقع والحصص، بل خارج التنازع على الأسطورة المؤسّسة للكيان. ولا نجافي الصواب كثيراً حين نقول إن الشيعيّة السياسيّة، إذا صحّ التعبير، كانت، حتّى 1975، حاجة مسيحيّة لمحاصرة السنّـة وتطويق مطالبهم.
تتكامل هذه الثوريّة التي تعيد النظر في الأسس والأركان مع ثوريّة جيليّة وطاقميّة: فالعونيّة لا تعترض فحسب على جيل الـ1943 وأبنائه (شمعون، إدّه، الجميّل)، بل تعترض أيضاً على جيل الطائف وطاقمه. هكذا يتبدّى الخلاف الانتخابيّ الأخير على جزّين، مع الحليف بالتوسّط نبيه برّي، تعبيراً عن المزاج العميق المناهض لـ»أهل الطائف»، رغم الاضطرار الظرفيّ لتمييز واحدهم عن الآخر، أو التحالف العارض مع واحدهم ضدّ الآخر. ومثلما فعل حزب الكتائب، في الستينات والسبعينات، حين جدّد النخبة السياسيّة المارونيّة بعناصر من المحامين والمدرّسين والخطباء، يُحلّ «التيّار» العونيّ في الصدارة «قادة» جدداً اختارهم «الزعيم» من خارج التداول السياسيّ المعهود. وفي موازاة ذلك يُستنهَض صوت كنسيّ قاعديّ يوالي عون، مذكّراً بصغار رجال الدين الراديكاليّين الذين ما فتئوا، منذ طانيوس شاهين، ينعطفون بالكنيسة المارونيّة، أو بعضها، في وجهة تغاير «الاعتدال» الذي يتّصف به رأسها البطريركيّ. ومع هؤلاء، وإلى جانبهم، يقف مدراء ووسطاء وكوادر جمعوا إلى أصولهم الريفيّة وعياً وخبرة تقنيّين لم يتأدّ عنهما ما يهزّ التربية التقليديّة في الإذعان للجماعة والقائد، واستخلاص خيارات قصوى من إحباطات المحافظة والكبت.
والواقع أنّ مَن يناهض جيل الـ43 وجيل الطائف معاً، كما يناهض الميثاق الضمنيّ للبنان الصغير والميثاق المعلن للبنان الكبير، يكون ينمّ عن تطرّف معهود في أحزاب الهامش، كالقوميّين السوريّين مثلاً، لا في أحزاب المتن والتيّار العريض.
لكنّ السمات والملامح المشار إليها ما كانت لتغدو «جماهيريّة» في الوسط المسيحيّ لولا ظروف الولادة والتبلور في عقد التسعينات: فالمرارة المسيحيّة تصلّبت آنذاك، لا تحت وطأة التهميش وحده، بل أيضاً، وأساساً، تحت وطأة التجاهل الإسلاميّ العام لذاك التهميش. وأغلب الظنّ أن التسعينات اللبنانيّة وقد افتُتحت بهزيمة عون العسكريّة ونفيه، طرحت على المسيحيّين أسئلة وهموماً حارقة:
فقد انتاب قطاعاً عريضاً منهم أنه استنفد الدعوة إلى «اللبنانيّة» واستهلكها، كما استنفد حمل المشروع المتعِب لدولة-أمّة لبنانيّة وُلد في العشرينات ولم يلق من «الشركاء في الوطن» إلاّ الصدّ والاعتراض. هكذا جاء تجاهل تهميشهم ليقطع في أولويّة الطائفة أولويّة مبرمة على الوطن، وهي ثنائيّة كثيراً ما نوقشت إبّان صعود بشير الجميّل وقبل رئاسته، حين كان المسيحيّون يعانون الحصارين السياسيّ والعسكريّ.
على أن الشركاء لم يكتفوا بتجاهل التهميش. فهم غطّوه ووفّروا لعهد الوصاية ما جعله يستغني عن المسيحيّين في الاقتصاد والمال كما في العلاقات الخارجيّة والدوليّة. وكان رفيق الحريري الرمز الأكبر لهذا الاستبدال السهل المرفق بما تبدّى اجتياحاً للسوق يضع الاحتكار حيث كان التنافس. وبدوره، كان الطائف عنوان مأسسة التحوّلات تلك، وهي المضادّة تماماً لإعادة التأسيس العونيّة بوصفها الضمانة كي لا يتكرّر «الغدر» بالمسيحيّين.
وحتّى حين أفضى اغتيال الحريري إلى خلط الأوراق على النطاق الأوسع، حافظ القادة المسلمون لـ14 آذار على مبدأ تهميش المسيحيّين، ولو داخل تركيبة سلطويّة بديل هذه المرّة. فمن «تسونامي» الجنبلاطيّة إلى عدم استقبال الجنرال العائد، ومن الاختيار الحريريّ لبعض المرشّحين المسيحيّين، لا سيّما الأرمن، إلى «التحالف الرباعيّ»، توافر ما يكفي من الأسباب التي ترفع الشكّ بالنيّات إلى يقين.
احتقان ذمّيّ وثوريّ
والحال، وفي معزل عن الخطابة والإنشاء الصارخين لعون، أن تجاهل «الشركاء» محنة المسيحيّين (بعد تجاهل محنتهم السابقة إبّان التحالف مع المقاومة الفلسطينيّة، وضلوعهم فيها)، أدخل تعديلاً بارزاً في نظر «الذات المسيحيّة» إلى ذاتها. ذاك أن الشعور الأكثريّ، الواثق والتأسيسيّ، الذي لم يبارح المسيحيّين على امتداد معظم القرن العشرين أخلى مكانه لمشاعر محتقنة وذمّيّة بقدر ما هي ثوريّة ومصرّة على إعادة النظر. وكان ما ضاعف هذا الإلحاح أن هزيمة عون والتهميش اللاحق سبقهما اغتيال «الحلم البشيريّ» وهزيمة حرب الجبل وعجز سلطة أمين الجميّل عن التحوّل سلطة، أي بلغة أخرى، الاصطدام بواقع العجز عن الهيمنة نتيجة تحوّلات ديموغرافيّة وغير ديموغرافيّة. هنا كان للمعاناة أن جنحت بحامليها إلى التماهي مع حالات أقليّة ومسيحيّة في الجوار العربيّ، كأقباط مصر وكلدان العراق وأشورييه، ممن درج مسيحيّو لبنان على استقبالهم كـ»ملاذ» لهم، إلاّ أنّهم مطلقاً لم يقارنوا أنفسهم بهم ولا تخيّلوا ذلك. وهو تراجع لا يمكن فهمه في معزل عن ضمور التسامح وعلامات الحداثة في المنطقة على مدى ربع القرن الأخير، ومن ثمّ تصاعد المدّ الدينيّ والأصوليّ.
أمّا السعي إلى تطوير وعي ديموقراطيّ في ما خصّ الأقليّات وشروط الاندماج الوطنيّ، فكان مستحيلاً نظراً إلى تضافر التهميش المسيحيّ وإنكاره الإسلاميّ في ظلّ الوجود العسكريّ السوريّ الثقيل الوطأة. هكذا تطوّر احتقان عُظاميّ من النوع العربيّ الكلاسيكيّ، أي ذاك الشعور الامبراطوريّ بفقدان مجد ينبغي أن يُستعاد ضدّاً على جميع الذين تآمروا، والجميع، في آخر المطاف، متآمرون. وهذا وعي إستعاديّ، أي أنّه يندرج في خانة الفكر السياسيّ الذي استحقّ اسمه، في التاريخ الفرنسيّ، مع محاولة استرجاع المَلكيّة والنظام القديم بعد نابوليون وهزيمة واترلو في 1815. إلاّ أن عهدين قصيرين نسبيّاً، للويس الثامن عشر وشقيقه شارل العاشر، كانا كافيين لتُختَتم بهما المحاولة، فكانت ثورة 1830 التي أعادت الاعتبار للجمهوريّة.
والوعي الاستعاديّ، وقد زكّته مأساة التهجير في حرب الجبل (ومطلب الاستعادة أخ شقيق لمطلب العودة)، لا يكتم طرق اشتغاله الوسواسيّة التي تغذّيها النوازع المشابهة، ولو بدرجات أقلّ، عند الطوائف الأخرى:
فالمسيحيّون ينبغي، مثل غيرهم، أن يكون لهم زعيم أوحد، وهو ما افتقروا إليه منذ بشير. وينبغي، كذلك، «تحرير» مناطقهم وإراداتها في الانتخابات كما في القانون الانتخابيّ المعتَمَد، وهذا فضلاً عن استرجاع صلاحيّات رئيس الجمهوريّة التي انتزعها منه الطائف، لا بل المطالبة بصلاحيّات لنائب رئيس الحكومة المسيحيّ.
بلغة أخرى، تمارس العونيّة الطائفيّةَ من دون أيّ تزويق، جاعلةً السياسة مجرّد غلالة رقيقة للحرب الأهليّة. بيد أن قائمة العداوة تندرج، في وقت واحد، في الفعل التأسيسيّ المُزمع كما في تصوّر المستقبل الموصد على أهله: فالعداء المرّ للفلسطينيّين، من دون تمييز، يخدم أيضاً في التشكيك بفساد التاريخ الاستقلاليّ اللبنانيّ الذي أتاح لهم، بفعل رخاوة المسيحيّين وتواطؤ السنّة، أن «يفعلوا بنا ما فعلوه». أمّا «العرب» و»الغرب» فهما، في الرواية العونيّة، شريكا سوريّة في إلحاق الهزيمة بالجنرال و»بيع لبنان مقابل برميل نفط». ولا بأس، لدى استحضار الشرّ الغربيّ، باستنطاق بعض الآيات البيّنات للاساميّة المسيحيّة الغربيّة وكيف أن اليهود يحكمون العالم ويتحكّمون به.
وعن لقاح هذه المشاعر المريرة طوّرت العونيّة ما يمكن أن نسمّيه ديناميّات الخبث والتقيّة التي تجد ما تستند إليه في نماذج و»نظريّات» جاهزة معروفة: فمن إميل لحّود والسليمانين فرنجيّة، الجدّ والحفيد، فضلاً عن إيلي حبيقة والقوميّين السوريّين، جيء بالعلاقة مع سوريّة بوصفها ضامن المسيحيّين وضمانتهم، بها وبما تتيحه من «عروبة»، يُغطّى التنازع المتّصل مع السنّة والتعاطي العنصريّ مع الفلسطينيّين. ذاك أن لعبة الطوائف المحضة تُلعَب بلا روادع، وهو بالضبط ما كان يفعله المسلمون حين يتحالفون مع سوريّة أو الفلسطينيّين أو «العرب» للتضييق على المسيحيّين. ومن بشير الجميّل وموسى الصدر، ثمّ إميل لحّود والفرنجيّين، جيء بحساسيّة «حلف الأقليّات»، خصوصاً أن السنّة، وعلى ما تردّد حكمة عونيّة شهيرة، ينطلقون في عدائهم الراهن لدمشق من مقدّمة مذهبيّة لا من مقدّمة لبنانيّة. وهو ما يحيله عداءً ظرفيّاً وعابراً لا يُبنى عليه ولا يُركن إليه. وغير بعيد من ذلك، يكمن الموقف، المسيحيّ كثيراً، اللبنانيّ قليلاً، من «حزب الله» وسلاحه ومقاومته. فهذا الأخير، فضلاً عن إضعافه السنّة، ما يتيح للصلعاء التباهي بشعر جارتها، لا يهدّد المسيحيّين ممن تقيم كتلهم السكانيّة الوازنة خارج دوائر حضوره وتأثيره. وفي تاريخ النزاعات اللبنانيّة الحديثة، لم يتحوّل التقاتل المسيحيّ-الشيعيّ عنواناً عريضاً من عناوين الحرب، بل اشترك الطرفان في قتال الفلسطينيّين السنّة كما تشابها في التقاتل الدامي والموسّع داخل صفوفهما. صحيح أن عناصر شيعيّة مسلّحة أقدمت على تهجير مسيحيّي الضاحية الجنوبيّة، لكنْ سبق ذلك بسنوات إقدام عناصر مسيحيّة مسلّحة على تهجير شيعة الضاحية الشماليّة-الشرقيّة. وهو ما يحول، من ثمّ، دون الشعور المطلق بالضحويّة من النوع الذي قد يساور المسيحيّ حيال الدرزيّ في تجربة حرب الجبل.
المنطق الخفيّ لـ»التفاهم»
غير أن «التفاهم» مع «حزب الله»، الذي يساعد في تعبيد الطريق نحو دمشق، يمنح المتفاهِم العونيّ، ما منح إميل لحّود قبله، أي سمعة «الوطنيّ» الذي يكره إسرائيل ويحبّ المقاومة ويدعمها،
من دون أيّة تبعة تترتّب على ذلك. وما دامت الأمور تقاس بمقاس الطوائف، لا بمقاس الوطن، فإن سلاح «حزب الله»، إذا ما دار الزمن دورته، يدفع الشيعة والجنوبيّون وحدهم أكلافه، بينما يُكسِب المسيحيّين ألقاباً وطنيّة ويُعفي ذمّيّتهم من أن تُضبَط بأيّ جرم مشهود، على ما حصل في زمن الحماقة مطالع الثمانينات.
لكنْ كائناً ما كان الأمر، يقدّم الاحتقان الأقليّ والنزوع الاستعاديّ، كما تمثّلهما العونيّة، حجّة أخرى على منطقة طاردة لأقليّاتها، مخيفة لها، تماماً كما يقدّمان الدليل على بعض حالات استدخال الأمراض الأكثريّة والاستبداديّة في الوعي الأقليّ. فالعونيّة، إذ تستعجل استيراد البسيكولوجيا القبطيّة والأشوريّة والسريانيّة، تبقى وصفة ضارّة لعلاج مشاكل الأقليّات، مغرقة المسيحيّين في وعي حاسد وضدّيّ يُعرّفون بموجبه بأنّهم «ضدّ» السنّة و»ضدّ» الدروز و»ضدّ» الذين يخالفونهم الرأي من المسيحيّين، من دون أن يمتلكوا أيّ معنى إيجابيّ يختصّون به. وهي، أيضاً، تورّط المسيحيّين في معركة خاسرة وغير عادلة في وقت واحد، هم الذين لا زالوا في لبنان، على رغم تجاهل تهميشهم السابق، وعلى رغم تردّي المنطقة وتراجع التسامح فيها، يملكون نصف كلّ شيء، وفي عداده رئاسة الجمهوريّة وقيادة الجيش، من دون أن يزيدوا عن ثلث السكّان.
وكما أن اللون البرتقاليّ حصيلة جمع الأرجوانيّ والأصفر، فإنّه، رمزيّاَ، منتصف طريق بين الروح والليبيدو، فيه تقبع الشهوة وتتمدّد تحت طبقة من الحبّ المقدّس. بيد أن البرتقاليّ الذي نحن في صدده لا يترك لمقدّس مهما كان أن يقيم فوق شهوة فرد زعيم.
“الحياة”