عمر حرقوص – خاص “الشفاف”
إنه زمن المصالحات في لبنان. عام 2009 على شدّته وانقساماته تحوّل بين ليلة و”ضواحيها” إلى عام الصلح بين اللبنانيين. فبداية هذا العام ليست كآخره، والعزّال الذين دخلوا العام متفرقين على كل شيء، ومجتمعين في مجلس وزراء «تفاهمات» الدوحة، كانوا ينتظرون بعضهم على مفترق طرق، فالدنيا انتخابات نيابية، وهذا ما يرفع الخطاب السياسي للجهتين، من هنا الحفاظ على الدولة والدستور وقيام الدولة، والبناء، ومن هناك الحفاظ على سلاح المقاومة والعلاقات المميزة والأخوية والندية والودية مع الأخوة في دمشق كرمى لعيون الممانعة.
الأشهر الأولى من العام 2009 شهدت كرّاً وفرّاً في اللقاءات والحوارات والسياسة اليومية، وزير من هنا يعلّق على أفعال وزير من هناك والعكس صحيح. أتى الشهر السادس من العام 2009 لينهي الانتخابات بفوز قوى 14 آذار، حيث أظهرت هذه القوى صورة الانفتاح التي بدأها رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري داعياً إلى المصالحات وفتح الباب للتهدئة، وكلنا تحت سما لبنان. وتحت سماء اتفاق الطائف الذي هو الإطار الذي يجب أن يحكم مسار المصالحات كما قال الحريري في أحد لقاءاته.
اللبنانيون المنقسمون إلى جهتين، كانوا في بداية العام كل على متراس من النقاشات والحوارات والصراعات التي تبدأ بإشكالات صغيرة بين الشياح وعين الرمانة، أو بين شوارع بيروتية يأتيها شبان من الضاحية، أو غيرها من صراعات لا تتوقف صغيرة وكبيرة، غير مغطاة سياسياً أو هي تصرفات أفراد، ولا تنتهي بإظهار مشاكل في وزارات ومجالس. في بداية العام كرهوا بعضهم، وفي نهايته “حبوا بعضهم”، كأنها أغنية فيروز تحضر هذه المرة «حبوا بعضن، تركوا بعضن»، ولكن بالمقلوب.
في بداية العام تفاجأ اللبنانيون بقبلات المصالحات العربية الثنائية وتحديداً السعودية- السورية التي حصلت في قمة الكويت الاقتصادية، كان مشهداً غريباً بعد الصراع الطويل وخصوصاً في نهاية العام 2008 في ظل حرب غزة. لم يصدق اللبنانيون في تلك اللحظة أن الود أسهل من العداء المستحكم في سنوات النزاع السابقة، توقيت مصالحات غريب لبداية عام مختلف.
اللبنانيون لديهم مصطلحات عديدة للمصالحات، تعلّموها بعد سنوات الحرب الأهلية، ومنها التفاهم، واللقاء، واتصالات التهنئة، ورسائل الأعياد من الأخوة للأخوة في الوطن. ولكنهم الأدرى باللغة العربية وتفاصيلها. ففي لسان العرب ترد كلمة مصالحة تحت كلمة صلح، أَصْلَح الشيءَ بعد فساده: أَقامه. والصُّلْحُ: تَصالُح القوم بينهم. والصُّلْحُ: السِّلْم. وقد اصْطَلَحُوا وصالحوا واصَّلَحُوا وتَصالحوا واصَّالحوا، مشدّدة الصاد، قلبوا التاء صاداً وأَدغموها في الصاد بمعنى واحد. وقوم صُلُوح: مُتصالِحُون، كأَنهم وصفوا بالمصدر. والصِّلاحُ، بكسر الصاد: مصدر المُصالَحةِ، والعرب تؤنثها، والاسم الصُّلح، يذكر ويؤنث. وأَصْلَح ما بينهم وصالَحهم مُصالَحة وصِلاحاً؛ قال بِشْرُ ابن أَبي خازم: يَسُومُونَ الصِّلاحَ بذاتِ كَهْفٍ، وما فيها لهمْ سَلَعٌ وقارُ وقوله: وما فيها أَي وما في المُصالَحة، ولذلك أَنَّث الصِّلاح.
إذاً، خرج اللبنانيون من كهف الصراعات إلى رحاب الصلح والمصالحة. البعض رأى في المصالحات باباً لدفع تحسن الوضع الأمني والاقتصادي قدماً أمام الانهيارات الاقتصادية العالمية وبعض من الانهيارات الأمنية. هنا بيروت التي تحتاج لإعادة تطوير بعدما أكلت من أمنها الصراعات والاعتصامات والهجوم عليها في السابع من أيار عام 2008. ومنهم من سعى إلى المصالحة على أسس تجمع الكل من دون استثناء، وتوقف هذا الانهيار الذي يأكل الأخضر واليابس.
البعض نفى الحاجة للمصالحة مع بعض الأطراف الآخرين، لكي يبعد كاس التصالح وأتباعها المرّة، مثلما قال رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون حين دعي لمصالحة القوات اللبنانية: ما حاجتنا للمصالحة فنحن لا يوجد بيننا شيئاً يستحق التصالح، والأوضاع في الشارع جيدة. فيما آخرون وضعوا أنفسهم كمصالحين للناس مثل الوزير السابق وئام وهاب الأكثر علناً على خط الاستصلاح، وآخرون عملوا بشكل مخفي وغير معلن، بحثاً عن فرص للنجاح.
إنه زمن جميل أحب فيه اللبنانيون التصالح بعد أعوام الفرقة، دخلوا الانتخابات النيابية خلال بداية الصيف وكل يحمل مشروعه في مواجهة الآخر. السابع من أيار حين تحول “يوماً مجيداً” ساهم في تعديل أمزجة الكثيرين، ومن يستطيع أن يربح الانتخابات يحكم البلد كانت أكثر الشعارات التي رفعت في خضم الأزمات. ومن يستطيع أن يحدد مسار البلد بالسياسة والاقتصاد والمفاهيم العامة والعلاقات الدبلوماسية، فله الساحة وليظهر مدى قدراته بالديموقراطية، كانت معركة الانتخابات الحد الفاصل بين الصراعات والهجومات والهجومات المضادة، وبين التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات الداخلية.
رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط ينهي الانتخابات منتصراً مع حلفائه في قوى 14 آذار، ويبدأ جو المصالحات بلقاء الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. إنه جنبلاط الذي يدور حاملاً في جعبته أدوات السلام مع الآخرين من دون أن يُرفق بحلفائه جميعاً. اللقاء الأول بين “سيد” الحزب و”بيك” المختارة كان يقف على «صوص ونقطة» كما يقف منشار النجار في الورشة، أي إنها بداية يشوبها الحذر، ولكن اللقاء الثاني الذي حصل بحضور الوزير أكرم شهيب وتيمور جنبلاط فتح الباب لعلاقة قوية جداً بين الطرفين. علاقة قال البعض عنها إنها ألغت سنوات من التمترس من الطرفين.
أجواء المصالحات والتقارب بين الأطياف السياسية والمذهبية المختلفة التي خيّمت فجأة بعد الانتخابات وبسرعة، وسط أجواء شككت في أهداف المصالحات وأبعادها، في ظل معطيات إقليمية ودولية دعت إلى الانفتاح على سوريا ومن بينها حركة كبيرة للوفود الفرنسية التي عبدت العديد من الطرق الدولية فكيف بها في الطرق الداخلية اللبنانية.
ذهب النائب الكتائبي سامي الجميل للقاء نائب زغرتا سليمان فرنجيه، هناك في بنشعي يتحول اللقاء الأول إلى فرصة لتجديد القديم. إنه التاريخ والجغرافيا بين بيتين تحالفا منذ الخمسينات واختلفا من عهد كميل شمعون إلى عهد فؤاد شهاب وما تلاه من افتراق وتقارب وصولاً إلى العام 1978، حين افترق “البيتان” نهائياً، بين بيار الجميل الجد وكذلك سليمان فرنجية الجد الآخر.
جاء اللقاء الذي جمع فرنجيّة والجميّل ليشكّل ترجمة جديد لكلمة التصالح وأخواتها، فما هو قبل الانتخابات غير ما بعدها. لذلك، كان واضحاً أنّ الخطاب الانتخابي تراجع ليحلّ محلّه التواصل بين خصوم الأمس ومراجعة الحسابات بين بعض الحلفاء، فصار اللقاء بين من يفصل بينهم الخلاف السياسي الواسع ممكناً، بل مطلباً وحاجة.
ولكن هذا التوافق الذي يمر من بيت الصيفي إلى بنشعي وما بينهما من بيوت في بكفيا والرابية لا يستطيع العبور على خط بنشعي ومعراب حيث يسكن رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع، الذي أعلن انفتاحه على المصالحات مع الجميع، من باب حماية لبنان في المرحلة القادمة، ولكن مصالحته لم تجد لها صدى إلا بين حلفائه.
وئام وهاب في بكفيا، وكذلك سليمان فرنجيه، اللقاءات تتسارع بشكل كبير، وهناك من يسبق “الآخرين” إلى الآخرين لإظهار مودته قبل «الآخرين»، فلسفة لبنانية خالصة، وخصوصاً أن الصيف واعد، والسياح سيتخطون المليونين. ازدحام على أبواب البيوت السياسية كما الازدحام الصيفي في الشوارع بسيارات عربية وأجنبية، حرّكت الفلوكلور اللبناني كله من المحبة وأخواتها إلى موائد المازة، وهز الخصر في المرابع الليلية.
في هذا الصيف الكبير دخلت “بعبدا” باب المصالحات الكبيرة هذه المرة. جنبلاط وعون «ألداء» الأمس، في لقاء «مصارحة» في القصر الجمهوري عند الرئيس ميشال سليمان. إنه لقاء حل المشاكل، من «تسونامي» العام 2005 إلى حل ما تبقى من مشكلة المهجرين، هنا ملف ناقص، وهناك قرية لم يعد كل مهجريها، عاد الوزير وائل أبو فاعور ليلتقي علناً القيادي في التيار الوطني الحر زياد عبس، بعد غياب طويل عن العلنية.
أقل من ستة أشهر من المصالحات، وأكثر من خمسة أعوام من الصراعات، إنه يوم بعبدا بين فرنجيه وجنبلاط، كلُّ يفتح الباب من جديد للقاء بعد غيبة دامت منذ التمديد للرئيس إميل لحود الذي “لو دامت له لما وصلت لغيره”. فكرة التمديد التي رفضها فرنجية في البداية كما رفضها جنبلاط وكادا أن يتحالفا. ولكن ولأسباب الممانعة وأخواتها اختار زعيم زغرتا التخلي عن زعيم المختارة في مرحلة بروز الحديث عن القرار 1559 في صيف العام 2004، لينضم إلى الممددين يومها، رافضاً الاستفراد بسوريا.
في المصالحات الحديثة هذا العام غاب رجل المصالحات الأول بعد خطيئة السابع من أيار الأمير طلال أرسلان. فالرجل الذي صنع في اليوم الأسود معجزة بيضاء، صار بعيداً عن المصالحات الهينة والتي لا تحتاج إلى الكثير من الجهد، فهو يوم اجتهد فقد أنقذ البلد، واليوم يجتهد غيره في ظل ظروف إقليمية أهدأ بكثير من تلك المرحلة، هو الزارع وغيره من يقطف، إنها لعبة الأمم “الصغيرة” كما قال “بيك” المختارة يوماً.
في المصالحات أيضاً، وفي عزّ التحضير للانتخابات، يقوم النائب ميشال المرّ بالتصالح مع آل الجميل ويتحالفان في معركة المتن الشمالي. قادها بيت بتغرين من جهة بالتحالف مع بيت بكفيا في مواجهة جنرال الرابية حليفه الأسبق. طار أرمن الطاشناق من حضن أبو الياس وحطوا بالكامل في حضن عون، ولكنهم يوم تسمية رئيس الحكومة أصروا على التمايز بتسمية سعد الحريري رئيسا للحكومة الجديدة، ولمرتين على التوالي، كأنهم يقرأون مستقبلاً ما في معنى التصالح وأخواتها.
«حبوا بعضن، تركوا بعضن»، إنه عام مضى غنت فيه فيروز الأغنية بالمقلوب «تركوا بعضن، حبوا بعضن». العام الجديد، إنه الوقت المنتظر لدى الكثير من اللبنانيين، وضروري أن تكتمل المصالحات، من ضمن المستقطعات الداخلية والإقليمية التي تشبه مستقطعات المطر في آذار، هي أي المستقطعات صعبة ولكنها تفيد الأرض جيداً، علّ بعض “التسيسر” في الأعمال يغلب على الظروف الإقليمية التي توحيها غيوم سوداء في المنطقة أشد سواداً من غيوم العاصفة التي هبت حتى الآن مرتين أو أكثر، وجعلت نهر بيروت يرتفع طوفاناً إلى تحت جسر برج حمود بقليل، هناك بالقرب من مبنى البلدية التي تدير الدنيا الصغيرة في الأحياء التي كانت مخيماً قبل عقود من أراكس ومرعش إلى طراد وسيس. إنها لعبة الأمم التي فتحت المصالحات بين أصعب دولتين في العالم، تركيا وأرمينيا، حيث كان الباب مقفلاً منذ أكثر من 100 عام، ها هي تفتح الباب لمصالحات صغيرة على حجم وطننا.
oharkous@gmail.com
بيروت
لبنان في 2009 لوعة تنتهي شوقاً لمصالحات بين السياسيين لقد خطط للبنان وللمنطقة من قبل النظامين الايراني والسوري والقوى الخارجية لكي يكون متخلفا كجيرانه( فالقوى التي استفادت استراتيجيا وتكتيكيا من 15 سنة من الاحتضان العسكري والأمني السوري، ورسّخت أقدامها في البنية الأمنية وشبكة المصالح السياسية العليا التي تخدمها تلك البنية) والخلاصة كما قيل(إن استمرار حكم الميليشيات غير الرسمية والرسمية، سيسهم في استمرار الفوضى، وتأخير التنمية، وانتقال المجتمعات إلى مرحلة البناء والتطور وترسيخ المفاهيم، ولهذا، فإنه من الضروري أن توجد سلطة ما، تكون عادلة، وقانونية، تعمل من أجل تحقيق التناغم الاجتماعي والديني والمذهبي، فالوطن العربي لا يمكن أن تحكمه فئة واحدة… قراءة المزيد ..