هناك امور لا تتغيّر في لبنان. هناك اشخاص لا يريدون استيعاب أن البلد في حاجة إلى دولة قوية وليس إلى “رئيس قوي”. ماذا يفعل “الرئيس القوي” بما يمتلكه من قوّة في حال كان عاجزا عن مواجهة المشكلة الأهمّ المتمثلة في السلاح غير الشرعي لـ”حزب الله”، وهو سلاح ميليشيا مذهبية لا اكثر.
في مثل هذه الأيّام قبل خمسة وعشرين عاما، اغتال النظام السوري في بيروت الرئيس رينيه معوّض وذلك بعد اسابيع قليلة من توقيع اتفاق الطائف. وضع الإتفاق حدّا للقتال الداخلي واسّس لنظام جديد يقلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية، لكنّه يكرّس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. فضلا عن ذلك، وضع الإتفاق جدولا للإنسحاب العسكري السوري من لبنان ونصّ على حلّ الميليشيات المسلّحة، وصولا إلى الغاء الطائفية السياسية يوما…
بعد ربع قرن على اغتيال رينيه معوّض، الذي كان شخصه يشكّل تعبيرا عن الرغبة في قيام بلد طبيعي يلعب فيه رئيس الجمهورية دورا توفيقيا بين اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق، لا يزال لبنان يعاني. إنّه يعاني من الرغبة في تدمير مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى بدءا برئاسة الجمهورية.
كان رينيه معوّض يمثّل مع الرئيس حسين الحسيني، رئيس مجلس النوّاب وقتذاك، ضمانة لحسن تنفيذ الإتفاق وفرض التوازن وابعاد لبنان عن كلّ ما له علاقة بالممارسات الميليشيوية التي ارهقت الوطن الصغير. لذلك، اغتيل الحسيني سياسيا، نظرا إلى رفضه أن يكون زعيم ميليشيا يشغل موقعا كبيرا في الدولة. أمّا رينيه معوّض فكان الرجل المسالم الآتي من خلفية سياسية تجعل منه رئيسا لكلّ اللبنانيين. كان قادرا على فرض احترامه على المواطن العادي. كان ضمانة لإستعادة اللبنانيين لبنانهم.
ما لا يمكن تجاهله أنّ الرجل كان ابن المدرسة الشهابية، نسبة إلى الرئيس فؤاد شهاب، التي في اساسها النجاح في بناء مؤسسات لدولة تؤمن بالعدالة الإجتماعية وتستطيع فرض نفسها في كل ارجاء الجمهورية.
حارب النظام السوري منذ ما يزيد على اربعين عاما قيام دولة قويّة في لبنان. لم يكن رينيه معوّض، على الرغم من أنّه لم يحكم سوى اسابيع ولم يستطع الوصول إلى القصر الرئاسي في بعبدا، رئيسا قويّا بمعنى القدرة على استخدام ما لدى الدولة من قوّة للتدمير والقمع. فالنظام السوري لم يكن يعترض على رئيس قويّ يعطّل مؤسسات الدولة ويشتبك مع الآخرين، كما كانت الحال عندما فرض اميل لحود بالقوة على اللبنانيين.
الدليل على ذلك، أنّه كان يمدّ اميل لحود بكلّ ما يحتاجه من قوّة لمحاربة الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، الذي سعى إلى قيام دولة قويّة في لبنان انطلاقا من مشروع الإنماء والإعمار. كان النظام السوري يحارب دائما قيام دولة قويّة في لبنان. لذلك، كان عليه التخلّص من رينيه معوّض بكلّ ما يمثّله ويعنيه بالنسبة إلى اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، وبالنسبة إلى مستقبل بلدهم ومؤسساته.
مؤسف أنّ كثيرين بين اللبنانيين يرفضون تعلّم شيء من تجربة الماضي القريب وذلك في ظلّ فراغ رئاسي مستمرّ منذ الخامس والعشرين من أيّار ـ مايو الماضي. هناك ما يشبه حاليا مرحلة ما بعد اغتيال رينيه معوّض التي عمل خلالها النظام السوري على التخلّص من روح اتفاق الطائف من جهة وتفسير نصّه بما يخدم مصالحه من جهة أخرى. الفارق أن ايران حلّت بعد ربع قرن على اغتيال رينيه معوّض مكان النظام السوري. ما لم يتغيّر هو الأداة التي ما زالت تستخدم من أجل تركيع لبنان ونشر البؤس فيه والحؤول دون قيام دولة قويّة مزدهرة، لا سلاح شرعيا فيها سوى سلاح الجيش اللبناني.
هذه الأداة هي النائب المسيحي ميشال عون الذي كان في خريف العام ١٩٨٨، وحتّى خريف ١٩٩٠ رئيسا لحكومة موقتة محصورة مهمّتها بتسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميّل الذي حافظ على الدستور وما بقي من تقاليد ديموقراطية في البلد وغادر قصر بعبدا ساعة انتهاء ولايته.
بقي عون في قصر بعبدا وقتذاك بحجة أن المطلوب “رئيس قويّ” يحمي المسيحيين. استفاد منه النظام السوري إلى ابعد حدود، خصوصا أنّه اخذ على عاتقه رفض اتفاق الطائف والدخول في مواجهة عسكرية مع “القوات اللبنانية” التي رضيت بالطائف، كما رضيت بنزع سلاحها والإنتقال من حال ميليشيا إلى حال حزب سياسي.
حقّق ما يُسمّى “الجنرال” كل الطموحات السورية بعدما رفع شعار الحاجة إلى “رئيس قويّ” لدغدغة عواطف المسيحيين السذّج. ابقى رينيه معوّض خارج قصر بعبدا كي يسهل اصطياده في منطقة يسيطر عليها الأمن السوري سيطرة تامة. دخل في مواجهة مسيحية ـ مسيحية. هجّر اكبر عدد ممكن من المسيحيين من لبنان. مكّن النظام السوري في الوقت المناسب من دخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع، وذلك للمرّة الأولى منذ الإستقلال.
في الواقع، قضى عون على أي نوع من المقاومة اللبنانية للإحتلال السوري في الوقت الذي كان حافظ الأسد يبحث بكلّ الوسائل الممكنة عن تفريغ اتفاق الطائف من مضمونه وتحويله إلى مجرّد غطاء لسيطرته على كلّ لبنان وابقاء جنوب لبنان جرحا ينزف.
بعد ربع قرن، لا يزال “الجنرال” يلعب الدور ذاته، مع فارق أنّه صار في شيخوخته اداة ايرانية، بل اداة لدى الأدوات الإيرانية في لبنان. يرفع شعار “الرئيس القويّ” من اجل منع قيام دولة قويّة ترفض السلاح غير الشرعي الموجّه إلى صدور اللبنانيين تحت شعار “المقاومة”. إنّه ينفّذ بكل بساطة المطلوب منه كي يستمرّ الفراغ الرئاسي.
ما طرحه الرئيس سعد الحريري في الحوار الذي اجراه قبل ايّام مع الزميل مرسيل غانم، كان محاولة أخرى للعودة إلى مسار طبيعي، قدر الإمكان، في لبنان بغية تجنيبه ويلات الحريق السوري الذي تورّط فيه “حزب الله” إلى ما فوق أذنيه. تتمثّل الخطوة الأولى في هذا الإتجاه بالإتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية وذلك من أجل المحافظة على رأس الهرم في مؤسسات الدولة.
لا اوهام لدى أي لبناني بالنسبة إلى “حزب الله” ودوره واجندته الإقليمية، لا في لبنان ولا في سوريا. ولكن، في نهاية المطاف، لا مفرّ من الدخول في حوار معه، لعلّ وعسى، يساهم ذلك في الخروج من الفراغ الرئاسي وتخفيف الأعباء المترتبة على لبنان. قد ينجح سعد الحريري في ذلك، كما قد لا ينجح. لكنّ الأكيد أنّه اثبت مرّة أخرى أنّه رجل دولة يضع مصلحة الدولة اللبنانية فوق أي مصلحة أخرى، بما في ذلك مصلحته الشخصية. فليس اسهل من المزايدات في ايامنا هذه، خصوصا في ظلّ الإحتقان المذهبي والطائفي…
ما يحتاجه لبنان، في ذكرى مرور ربع قرن على استشهاد رينيه معوّض، بكل ما يمثّله، هو إلى رئيس يساهم في بناء دولة قويّة ترفض الميليشيات المذهبية، أيّا تكن الشعارات التي تتلطى بها. آخر ما يحتاج إليه لبنان “رئيس قوي” يدمّر ما بقي من الدولة. هذا ما لا يستطيع شخص مثل ميشال عون استيعابه، نظرا إلى أنّه يبدو أنّه يعتبر أن لديه مهمّة تتمثّل في تهجير ما بقي من مسيحيي لبنان وتحويلهم جزءا من معادلة اسمها حلف الأقلّيات. هذا الحلف الذي يخدم مصلحة النظام في ايران، في مفاوضاته مع “الشيطان الأكبر” لا اكثر ولا أقلّ!