أصبح من المسلّم به في علم الاجتماع المعاصر وفي حقل العلاقات الدولية أن الذاكرة التاريخية تؤثر أحياناً بشكل حاسم في سلوك الشعوب وقرارات الدول. لكن هل ينطبق ذلك على لبنان أو هل يشذ بلد الأرز عن القاعدة بسبب ثقوب في الذاكرة الجماعية او بسبب انتقائية مقصودة؟لا يزال لبنان عملياً يعاني من آثار وتداعيات دورة حروب بدأت في نهاية الستينات من القرن الماضي ولم تتوقف بشكل نظري إلا مع اتفاق الطائف. بيد أنّ استمرار ضغط ووجود العوامل الاقليمية والخارجية حتى اليوم، يلقي بثقله على تداخل التاريخ القريب المثخن بالجراح واللحظة المعاصرة الراهنة والحبلى بمخاطر العودة الى الوراء.
من يتذكر تاريخ حروب لبنان الاهلية والخارجية يتوجب عليه التنبه إلى هشاشة النسيج الوطني، وكأن مقولة البلد غير القابل للحكم «pays ingouvernable» أو أطروحة «نفيان لا يصنعان أمة»، تؤكدان أكثر من أي وقت مضى المخاوف حيال تهالك وضع الدولة في لبنان والانقسام المريع بين طوائف ومذاهب ووكلاء دول خارجية وايديولوجيات متصارعة.
التوصيف سهل على رغم خطورته، إذ إنّ «بذور التفكك والتحلل تكمن في تأسيس لبنان على قاعدة التركيبة الطائفية التعددية»، حسب تعبير العلامة الكبير ادمون رباط.
بيد أنّ لبنان المستقل الذي كان ينظر اليه على انه «سويسرا الشرق» (خلال أول عقدين أو ثلاثة عقود من عمره)، سرعان ما تحولت «المعجزة – الاسطورة» إلى سراب تحت وقع الضربات الخارجية والداخلية التي خلخلت الاساس الطائفي للمجتمع والدولة اعتباراً من «ثورة» أو «أزمة» 1958.
وبعد دخول «الصاعق الفلسطيني» والنظام السوري واطراف اقليمية ودولية على الخط، كان يوم الثالث عشر من نيسان 1975 فاتحة جولات حروب استمرت عقدا ونصف من الزمن، كادت تقضي على الكيان ووحدته. لكن انهيار «الصيغة اللبنانية» بنت تسوية 1943، لم يمنع من تجميلها في صيغة محاصصة طائفية جديدة في عام 1989.
والآن يتضح أن تلك التسوية المتجددة تحت إشراف خارجي لم تصمد في تطبيقها الدستوري إلا تحت رعاية الوصاية الخارجية. ولذا مند العام 2005 إلى 2008 و2013، تتعمق أزمة النظام وهي لا تشبه أزمة 1969 الشهيرة وشبيهاتها، بل أصبحت تعكس مأزق التعايش بين صلاحيات الرئاسات الثلاث ولعبة التعطيل والهيمنة على قرار الدولة.
يتفاقم المأزق الدستوري بسبب حدة الانقسام السياسي ورفض تنظيم الاختلاف، إذ بدلاً من إهداء حزب الله «انتصاره» في حرب 2006 إلى «الدولة اللبنانية»، وضع هذا الحزب سلاحه على جدول الاعمال الداخلي وتجلى ذلك في أكثر من مناسبة منذ 2008، واحتدم الأمر مع الانغماس في القتال السوري.
إزاء منطق الغلبة الذي يمارسه حزب الله، لم يوفق معسكر «14 آذار» في بناء استراتيجية مجابهة أو حوار، ولم يفلح من يصنف نفسه في خانة الوسطية من إيجاد مخارج للمأزق. وهكذا بعد التمديد للمجلس النيابي وما حصل مع المجلس الدستوري، اصبحت الدولة وكأنها تختصر بحصن رئاسة الجمهورية ومؤسستي الجيش والامن الداخلي.
في ظل هذا الانسداد السياسي، أتت أحداث عبرا الاسبوع الماضي لتُبرهن مدى انكشاف البلاد وخطورة ما يحيط بالسلم الاهلي. وفيما يتعدى كل ملاحظة وكل التباس، يتوجب استخلاص الدروس من التجارب السابقة والالتفاف حول مؤسسة الجيش الوطني التي تبقى صمام الامان للمواطن والوطن. أما الدرس الآخر فهو عدم إمكان هيمنة فئة او مجموعة في ظل إحباط او تهميش مجموعات اخرى في مجتمع مركب.
من أجل عدم الوقوع في المحظور، يتوجب على صانعي القرار عدم الاختباء خلف الذاكرة الجزئية الناتجة عن تفسير استنسابي للتاريخ، بل محاولة استخلاص دروسه وعدم الوقوع في مطبات مماثلة لتلك التي سقط فيها لبنان مراراً. لقد تزامن انفجار لبنان في 1975 مع حكم سوري مستقر بعد مرحلة انقلابات متتالية. ومن جديد، في 2013، يرتبط تحصين لبنان أو تفجير الحروب فيه مع تطور الحدث السوري.
بعد السقوط العملي لنظرية النأي بالنفس، اصبح لبنان تحت الخطر بسبب منطق القهر الذي يعتمده حزب الله، وبسبب ظواهر متشددة مضادة من أمثال ظاهرة الشيخ أحمد الأسير. ولذلك لا بديل عن الدولة ورفض منطق مواجهة السلاح بالسلاح لأنه يضع البلد في مهب الرياح ويهدد هذه المرة ديمومته ووحدته في حقبة التفتت والاهتراء الاقليمي.
إن العودة إلى روحية وحيثيات «إعلان بعبدا» تمثل الحد الادنى لبدء مسيرة الإنقاذ وعدم الانزلاق إلى هاوية الحرب الأهلية. وعلى المدى المتوسط بعد انقشاع هذه الغمامة الكبيرة، من دون الانتقال إلى مصاف المواطنة تدريجياً كبديل للطائفية، ومن دون الحياد العسكري الخارجي، سيبقى لبنان عرضة للهزات والارتدادات وسيكون كيانه قيد الدرس.
التعليقات
khattarwahid@yahoo.fr
الجمهورية