لم يعد هناك ما يتّفق اللبنانيون في شأنه. يظهر كم الإنقسام بينهم عميق في كلّ مناسبة، اكانت داخلية او ذات بعد اقليمي. رحم الله الرئيس صائب سلام، والد تمّام سلام رئيس مجلس الوزراء الحالي. رفع صائب سلام بعد احداث العام 1958، التي شهدت انقساما واضحا، ذا طابع طائفي، شعار “لبنان واحد لا لبنانان”.
استطاع لبنان في تلك المرحلة، مرحلة ما بعد تلك الأحداث ووصول اللواء فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية، تجاوز مخاطر كثيرة على الصعيد الإقليمي وتفادي الإنعكاسات السلبية لهذه المخاطر عليه.كان ذلك بفضل سياسة حكيمة شارك في وضعها اشخاص من مستوى وزير الخترجية السابق فؤاد بطرس الذي توفّى قبل ايّام.
كذلك، استطاع لبنان في عهد الرئيس شارل حلو، الذي خلف فؤاد شهاب في العام 1964، تفادي الدخول في حرب حزيران ـ يونيو 1967، التي عادت بالويلات على مصر وسوريا والأردن، وهي حرب لا يزال العالم العربي عموما والمشرق خصوصا يعانيان من نتائجها الى اليوم.
لم يكن اسهل من دخول لبنان تلك الحرب والوقوع في الفخّ الذي نصبه وقتذاك البعث السوري لجمال عبد الناصر.
لو اصغى شارل حلو للمزايدين واستجاب لما كان يطلبه منه زعماء كثيرون كانوا يريدون زجّ البلد في حرب خاسرة سلفا، لكان دخل الحرب الى جانب مصر وسوريا والأردن. عرف شارل حلو كيف يتفادى، وان موقتا، خسارة جنوب لبنان ووضعه تحت الإحتلال.
لم يدم صمود شارل حلو طويلا. رضخ اخيرا للضغوط التي مورست عليه وقبل في العام 1969 توقيع اتفاق القاهرة، وذلك بعد اعتكاف طويل لرشيد كرامي، رئيس الوزراء وقتذاك. كان اتفاق القاهرة يعني اوّل ما يعني التنازل عن السيادة الوطنية على جزء من الأراضي اللبنانية، اي ان الدولة اللبنانية ام تعد دولة طبيعية.
منذ توقيع اتفاق القاهرة وبدء حلول السلاح غير الشرعي الإيراني، في العام 1982، مكان السلاح غير الشرعي الفلسطيني، زاد الإنقسام اللبناني وتعمّق على الرغم من كلّ ما بذله الرئيس رفيق الحريري من اجل اعادة اللحمة بين ابناء الشعب الواحد.
كان اغتيال رفيق الحريري في 2005، خطوة على طريق تكريس الشرخ اللبناني. لم يعد سرّا من اغتال الحريري الأب ورفاقه ومن عمل من اجل تحويل لبنان مستعمرة ايرانية، خصوصا بعد سقوط النظام السوري في 2011 واضطراره، قبل ذلك، في 2005 الى الإنسحاب عسكريا من لبنان.
لا تمرّ مناسبة او حدث، الّا ويتبيّن ان هناك لبنانين وليس لبنان واحدا. في جنازة فؤاد بطرس، الشخصية الوطنية اللبنانية التي ترمز الى وحدة لبنان بمسلميه ومسيحييه والى المحاولة الجدّية التي قام بها فؤاد شهاب من اجل بناء دولة المؤسسات في ظلّ العدالة الإجتماعية، كان الإنقسام واضحا.
كان هناك لبنان المؤمن بلبنان. حضر لبنان هذا الجنازة وعزّى ذوي الفقيد الكبير. كان هناك لبنان آخر لا علم لديه بفؤاد بطرس وبما قدّمه للبنان واللبنانيين وما فعله من اجل المحافظة على الكرامة اللبنانية في ظروف بالغة الصعوبة، خصوصا عندما كان حافظ الأسد في اوجّ عزّه وجبروته. غاب قسم من لبنان، الذي يمثّله “حزب الله” وتوابعه، عن الجنازة التي ذكّرتنا في الوقت نفسه بأنّه لا تزال هناك شخصيات ما زالت تعمل من اجل استعادة تلك الروح التي حاول نشرها على صعيد الوطم كلّه كبار من طينة صائب سلام وتقيّ الدين الصلح اللذين اغتالهما النظام السوري سياسيا.
في الكنيسة، حيث جرت مراسم جنازة فؤاد بطرس، كان حاضرا الرئيس حسين الحسيني، اطال الله عمره، وذلك للتذكير بأنّ الأمل ليس مفقودا كلّيا بلبنان الواحد الذي لا يحلّق الّا بجناحيه المسلم والمسيحي، على حدّ تعبير صائب سلام ايضا. جاء حضور حسين الحسيني، وهو سيّد حقيقي، لتأكيد ان الخميرة التي يأتي منها الخير لم تفسد بعد.
ظهر الإنقسام اللبناني بوضوح اكثر عبر المواقف التي خرجت الى العلن مع تكشّف فصول المأساة التي يعاني منها اهل مضايا البلدة السورية التي يشارك “حزب الله” في حصارها. هناك لبنان المتضامن مع اهل مضايا ومع كلّ مواطن يعاني من الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، وهناك لبنان الذي يستمتع بمأساة السوريين ويشارك من منطلق مذهبي في تجويع اهل مضايا وغير مضايا ويعمل على تهجيرهم لمجرّد انّهم سنّة. كيف يمكن لحزب، يعتبر نفسه لبنانيا، ولديه اعضاء في مجلس النوّاب ووزيران في الحكومة المشاركة في حصار مضايا؟
من جنازة فؤاد بطرس، الذي دافع بكل ما كان يمتلكه عن استقلال لبنان، الى مأساة مضايا التي يشارك فيها “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عناصره لبنانية، يتعمّق الإنقسام اللبناني ويتأكّد حجم الهوة التي تفصل بين لبنانيين لم يعد يجمع بينهما شيء. لم تعد هناك ايّ قيم مشتركة بين مواطن يطمح الى ان يكون لديه رئيس للجمهورية وان يكون لبنان بلدا مستقلّا يمتلك مؤسسات حقيقية وبين لبنان الذي ليس سوى تابع لإيران وما تريد تحقيقه في سياق مشروعها التوسّعي الذي في اساسه اثارة الغرائز المذهبية.
اكثر من ذلك، لم يعد هناك قاسم مشترك بين مواطن لبناني يعرف ان لا خيار آخر امام بلده سوى ان يكون منفتحا على الدول العربية، في مقدّمها اعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية وبين مواطن يستهدف اهل الخليج ويسعى الى الإساءة اليهم عن سابق تصوّر وتصميم.
هناك من يريد الخير والإزدهار للبنان وهناك من يريد نشر البؤس فيه. الفارق بين الخير والإزدهار من جهة والبؤس من جهة اخرى يلخص عمق الإنقسام اللبناني الذي لم يعد يفوّت مناسبة الّا ويظهر فيها.
لم يستطع لبنان حتّى التضامن مع المملكة العربية السعودية بعد التعرّض لسفارتها في طهران ولقنصليتها في مشهد. هناك بكلّ بساطة من يريد ان ينزع عن لبنان اي صفة ذات طابع عربي. هناك من يريد تحويله الى الخروف الأسود في القطيع. هذا جزء مما يتعرّض له لبنان في وقت يتفرّج العالم، على رأسه ادارة باراك اوباما، على المأساة الأفظع منذ الحرب العالمية الثانية، اي مأساة الشعب السوري.
هل يعود لبنان موحّدا يوما؟ لبنان ما زال يقاوم، لا يزال فيه رجال يؤمنون بأنّه لن يصحّ الّا الصحيح في نهاية المطاف وانّ الظلم لا يمكن ان يستمرّ الى ما لا نهاية.
في انتظار نهاية الظلم، نحن امام لبنانيين وليس امام لبنان واحد كان يطمح اليه صائب سلام الذي عمل من هدي ما آمن به.