في القانون العام العادي يحاسب السارق في الدرجة الأولى لكن يحاسب ايضا بل ويعاقب أي شخص يتواطأ مع الفاعل في ترويج المسروقات وبالتالي المشاركة في الغنم الناجم عن الفعل الجرمي. في القانون الجنائي يحدث أحيانا أن يتواطأ الوريث المستعجل على قتل مورّثه بسبب نفاد صبره وما يبدو له من عمر المورّث الطويل وصحته المنيعة على الخطوب والزمن. وعندها فإن القانون يحرمه من الإرث بالكامل وفق القاعدة الشهيرة في قانون الأحكام العدلية العثماني “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”. وفي الحالة الأخيرة فإن الوارث لم يرتكب فعل القتل بنفسه لكنه يحاسب بل وينال عقاب المجرم أيضا لانه تواطأ على القتل أو حرض عليه أو سهّله على أمل قطف ثمار الجريمة.
في الساحة السياسية اللبنانية يحصل الآن شيء قريب جدا من هذا الوضع، فهناك من يقتل وهنالك في المقابل شركة مساهمة غامضة همها الأول تشجيع القتل أو على الأقل وضع اليد في وضح النهار على تركة الضحية. بصراحة أكثر إن الذي يقتل لا يفعل ذلك عن عبث بل يقتل لأنه ضامن لوجود شريك جاهز لمحاولة إعطاء القتل مفاعيله السياسية ولهذا فإن من الممكن القول إن مسؤولية المعارضة وحدها وليس غيرها وضع حد حاسم لمؤامرة تصفية نواب الأمة الذين يخالفونها الرأي عبر الإعلان الرسمي وغير الملتبس بأنها لن تقبل أبدا المنافسة على مقاعد نواب الأكثرية الذين يقضون بالاغتيال السياسي. لأنها إن فعلت ذلك ألغت الفائدة السياسية من القتل وأزالت بالتالي الدافع الأهم للاعتداء الوحشي المتكرر على حياة هؤلاء. فإن لم تفعل ذلك تحت هذا العذر أو ذاك فإنها تكون في موقف الرضى عما يحصل والذي يعطي الإشارة للقاتل بأن يمضي قدما في مؤامرته الجهنمية. وبالطبع عندما يتكرر القتل ثم الاستغلال السياسي للجريمة فإننا مع الوقت نصبح أمام ما يعتبره القضاء الجزائي “نمطا جرميا”Crime pattern أو “مؤامرة” Conspiracy مع أدوار موزعة بين الجناة-الأدوات والرعاة والمحرضين الذين يهرعون لوضع اليد على ثمار الجريمة. وفي القانون الجزائي لا يحتاج المحقق في مثل تلك الحالات إلى اعترافات صريحة أو أدلة مكتوبة بل هو يستقصي ويقيِّم القرائن الحسية والظروف المحيطة بالجريمة، ومنها بالتأكيد تحديد من هم الذين يرتبطون بخصومة حادة ومعروفة مع الضحية والذين هم أول من يجنون المكاسب الفورية من جريمة القتل.
أكثر من ذلك عندما يتكرر قتل النواب بالتحديد في دوائر مختلطة مناسبة وتحتمل تغير الموازين وبالتالي تحمل أكبر حظ لتبديل النتيجة وإيصال خصم الضحية إلى مقعده المضرج بالدم فإن الشك يصبح قويا الى درجة لا تنفع معها دموع التماسيح في طمس حقيقة أن هناك مؤامرة متكاملة محبوكة جيدا على الأقل على مستوى التفاصيل الإجرامية (إذ أنها مؤامرة في منتهى الغباء سياسيا) لها هدف محدد هو إنقاص عدد نواب الأكثرية وبالتالي محاولة قلب موازين العدد في مجلس النواب بالمسدسات الكاتمة للصوت أو السيارات المفخخة. ولا يهم هنا من هي اليد التي تضغط على الزناد أو على الريموت بل الذي يهم بالدرجة نفسها معرفة الجهات التي قد تكون متحالفة موضوعيا مع تلك اليد وتنتظر بترقب وحماسة نجاحها في مهمتها لتكمل هي المهمة نفسها لكن في المجال السياسي. وعندما يتكرر القتل على نواب ووزراء جهة سياسية محددة فإن السذج وحدهم يمكنهم الإيغال في إيجاد الأعذار وإعطاء التفسيرات الواهية لمسلسل الجريمة أوالتغطية على حقيقة أن هناك وراء هذا المسلسل المتناسق الأهداف إرادة سياسية واحدة ورعاة سياسيين ظاهرين وخفيين.
إن العامل الأساسي الذي جعل لجنة التحقيق الدولية تشير تلميحا وتصريحا إلى الهوية المحتملة لقتلة الرئيس رفيق الحريري لم تكن الأدلة الحسية في البداية بل تحليل الجو السياسي الذي سبق عملية القتل وخصوصا العلاقات الشديدة التوتر التي قامت بين الرئيس الشهيد وخصومه السياسيين في الداخل والخارج ثم وجود احتمال قوي يومذاك بفوز “تحالف البريستول” الذي كان الرئيس الحريري قد انضم إليه بكل ثقله في الانتخابات النيابية التي كانت مرتقبة بعد شهرين أو ثلاثة. في الحالة الحاضرة فإن هناك انتخابات رئاسية مقبلة يوجد احتمال كبير أن تفوز فيها الأكثرية النيابية في اختيار رئيس للجمهورية لا يكون معيّنا من الخارج سواء من الجارة سوريا أم من غيرها، ولو حدث ذلك فإن نتائجه السياسية ستكون على الأرجح بحجم الزلزال الذي كان سيحدثه فوز تحالف المعارضة بقيادة الحريري في انتخابات 2005.
من الممكن لذلك أن تجد لجنة التحقيق الدولية تشابها كبيرا بين ظروف جريمة اغتيال الرئيس الحريري التي سبقت الانتخابات النيابية ومسلسل الجرائم بل المجزرة الواقعة الآن على الأكثرية النيابية التي فازت في انتخابات تشريعية عامة نزيهة تمت بإشراف دولي وحظيت باعتراف شامل بأنها أفضل انتخابات جرت في لبنان منذ عقود رغم القانون السيء الذي تمت في ظله. ومن المؤكد أن اللجنة تستطيع –إذا طلب منها ذلك- أن تبدأ بمعالجة الجرائم المتوالية على الوزراء والنواب منذ الانتخابات النيابية في العام 2005 ليس باعتبارها جرائم متعلقة بجريمة اغتيال الرئيس الحريري بل باعتبارها جزءا من مؤامرة تالية هدفها الأساسي تغيير النظام الديموقراطي اللبناني بواسطة القتل المنهجي والإرهاب المنظم، وهو إرهاب يرمي بوضوح إلى منع الدولة اللبنانية والحكومة الحالية من ممارسة عملهما وفي الوقت نفسه منع مجلس النواب اللبناني أي ممثلي الشعب اللبناني من ممارسة مهماتهم التشريعية وكذلك منعهم من اختيار رئيس للجمهورية بحرية ومن دون تدخل خارجي. وهذه الجرائم المتعددة الوجه الموحدة الغرض قد تقع أيضا تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة باعتبارها تهديدا للاستقرار الإقليمي والعالمي، وإن كانت تختلف عن سابقتها في أنها قد تظهر حلفاء وشبكة من التفاهمات مختلفة نسبيا عن مكونات الشبكة التي سهلت قتل الرئيس الحريري وشجعت عليه.
إن من المناسب أن ترفع الحكومة اللبنانية إلى مجلس الأمن الدولي طلب إجراء تحقيق دولي جديد (تقوم به لجنة التحقيق الحالية برئاسة برامرتس) لكن على أن يتم هذا التحقيق بصورة موازية لسياق جريمة اغتيال الرئيس الحريري ويكون تركيزه على الوقائع والحيثيات المتصلة بمحاولة قلب النظام اللبناني من طريق العنف وبوسائل إرهابية. وعلى اللجنة في هذه الحال السعي لتكوين ملف مستقل يغطي الجرائم المتمادية (منذ اغتيال النائب الشهيد جبران تويني)، باعتبار أنها تشكل في مجموعها نمطا إجراميا متكاملا ومؤامرة لا تقل خطورة في أهدافها وأخطارها على السلم في المنطقة عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط 2005. ولا بد عند هذا المنعطف الدامي الجديد، وقبل انتقال المجرمين إلى تنفيذ جرائم من الصنف نفسه، من إيجاد آلية قانونية تضع -في غياب الرادع الأخلاقي- روادع قانونية صارمة وحاسمة -ومدعومة بإرادة المجتمع الدولي- لأسلوب في السياسة لم يسبق أن عرف لبنان مثيلا لانحطاطه وشراسته.
لا يقوم هذا الكلام بالطبع على أي بيّنات، لكن اللبنانيين الذين لا يرون وجه المجرم يرون على الأقل الذين يحرضون ليل نهار وبعنف لا سابق له على نواب الأكثرية، إخوانهم في الوطن (وشركائهم المفترضين في الحوار والمبادرات التصالحية وبناء المستقبل) والذين يبشرونهم كل يوم بالشر المستطير ويهولون عليهم ويغتبطون لتشريدهم في أقطار الأرض ثم يهرعون غب كل جريمة قتل للمطالبة بإرث الضحية وجمع الأسلاب السياسية.
إن استشهاد المناضل الكتائبي أنطوان غانم زمن مفصلي في نضال هذا البلد من أجل إنسانيته المغتصبة ووحدته المجتمعية ونظامه السياسي التعددي وحقه الطبيعي في الحياة والازدهار مثل بقية شعوب الأرض. وإن اللبنانيين سيراقبون بكثير من الاهتمام سلوك المعارضة والطريقة التي ستتعامل بها مع مفاعيل الجريمة الجديدة إذ أن المعارضة لا يمكنها استنكار الجريمة والعمل على الإفادة منها في الوقت نفسه. بتعبير آخر إن الدرب الوحيد للمصالحة الحقة بعد كل الدماء التي سالت ليس الحوار التكاذبي ولا التوافقات السطحية بل هو الاتفاق أولاً على ميثاق شرف للعمل السياسي و”تنظيم الاختلاف” على حد قول البعض ضمن أطر المؤسسات والتقاليد السياسية والمدنية المتحضرة. ومن هذا المنطلق فإن الشرط الأول الذي قد يعيد للبنانيين الطمأنينة إلى المستقبل هو أن ترفض أحزاب المعارضة الأخلاقية وذات الشرف العالي وعلى رأسها “حزب الله” تكرار سقطة المتن والقبول ثانية بالسعي لتغيير موازين مجلس النواب من
باب الجريمة السياسية.
(كاتب سياسي)
لا يوقف اغتيال النواب الاّ إعلان المعارضة رفض المنافسة على مقاعدهم انا اوافقك الراي ايها الاخ العزيز على ما ورد في هذا المقال ولكن لنعد بالزمن الى الوراء, الى الاحداث التي رافقت احداث اغتيال الشهيد بيار الجميل رحمه الله من اعتداءات غاضبة و غير مسؤولة على الخصم و من ثم تلاه رفض الشيخ امين استقبال النائب ميشال عون للتعزية كونه يثير الحساسية لدى انصاره باعتباره حليفا لسورية.. لكنه استقبل وفد من حزب الله في بكفيا كما استقبل سليمان فرنجية و طلال ارسلان في منزله في سن الفيل… يا للمفارقة العجيبة… بالانتقال الى الشق السياسي يجب التركيز على الجواء التي سبقت… قراءة المزيد ..