كان مهمّا كسر الجمود في المملكة العربية السعودية. أذا كانت التغييرات الأخيرة في المملكة، على صعيدي ولي العهد وولي ولي العهد وتعيين وزير جديد للخارجية، أدّت إلى شيء، فهي وفّرت فكرة عن مدى قدرة النظام على تطوير نفسه بمرونة كبيرة ومن دون عقد.
وفّرت أيضا فكرة عن كيفية الإنتقال بالمملكة إلى مرحلة جديدة بعيدا عن الأقاويل التي تبقى أقاويل والتي تصدر عن عدد لا بأس به من المستشرقين، بينهم من لم تطأ رجلاه أرض المملكة يوما…وبينهم من أمضى فيها فترة طويلة. ولكن ما العمل عندما يبقى المستشرق مستشرقا، حتّى بعدما يكون مكث فترة في بلد ما، وصار يعتبر نفسه خبيرا من الدرجة الأولى فيه؟
يدلّ الإنتقال إلى الجيل الثالث، عبر الأمير محمد بن نايف الذي صار وليّا للعهد مكان الأمير مقرن بن عبد العزيز، على العبور السلس إلى مرحلة الملوك الذين ينتمون إلى هذا الجيل. سيكون سلمان بن عبد العزيز، أطال الله عمره، آخر ملك من بين ابناء المؤسس.
الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ المملكة أظهرت أن الرهانات على أن تجربة الإتحاد السوفياتي ستتكرّر في السعودية، ليست في مكانها. تجربة الإتحاد السوفياتي غير قابلة لأن تتكرّر في المملكة وذلك ليس لأنهما في عالمين مختلفين فقط. فقد تجاوزت السعودية، في عشر سنوات، وفاة ملكين، هما فهد بن عبد العزيز وعبدالله بن عبد العزيز، وولين للعهد، هما سلطان بن عبد العزيز ونايف بن عبد العزيز.
لم يحصل أي فراغ من أي نوع كان ولا حالة من الإرباك في أيّ وقت. على العكس من ذلك، أمسك الملك سلمان بزمام الأمور ودفع دفعا في اتجاه الإنتقال إلى الجيل الثالث مباشرة في تجاوز للأمير مقرن الذي فضّل الإبتعاد في الوقت المناسب.
هذا لا يعني أي مسّ بقدرات الأمير مقرن، أصغر ابناء عبد العزيز الذين ما زالوا على قيد الحياة، لكنّ الرجل يعرف تماما أين يقف ولماذا صار في مرحلة معيّنة وليّا لوليّ العهد قبل أن يصبح وليّا للعهد، ولكن من دون أي حقيبة وزارية مهمّة أوحصة في الحكومة، في عهد سلمان بن عبد العزيز.
امتلك الأمير مقرن ما يكفي من المروءة والوعي السياسي والوطني، ليكون في مقدمة مبايعي ولي العهد وولي وليّ العهد الجديدين.
في الواقع، يصعب إجراء أيّ مقارنة بين تجربة الإتحاد السوفياتي والتجربة السعودية وذلك على الرغم من أن البلدين مرّا في فترة جمود، خصوصا بعدما مرض الملك فهد في أواخر تسعينات القرن الماضي، وبعد المرض الطويل لليونيد بريجنيف الذي سبق وفاته في ١٩٨٢.
حاول الإتحاد السوفياتي الخروج من مأزقه، ابتداء من ١٩٨٥، عبر ميخائيل غورباتشوف الذي أتى بعد يوري اندروبوف وقسطنطين تشيرننكو اللذين أمضيا، معا، ثلاث سنوات في السلطة. لم يكن من أمل في إعادة الحياة إلى نظام يمتلك آلة عسكرية ضخمة واقتصادا هشّا، باع المواطن الأوهام. لم يكن ذلك ممكنا، لا عبر “غلاسنوست” ولا عبر “بريسترويكا”.
تكمن أهمّية السعودية في أنّها قادرة على صنع المفاجآت. لا بدّ من الإعتراف بأنّ عبدالله بن عبد العزيز وضع خلال السنوات العشر التي أمضاها ملكا الأسس لإصلاحات في العمق شملت مؤسسة الحكم ودور المرأة والبرامج التربوية والتمية والإعلام. أخذت هذه الأصلاحات منحى جديدا مع صعود سلمان بن عبد العزيز إلى العرش. في أشهر قليلة تغيّرت المملكة كلّيا. هناك طي لصفحة الجمود. هذا لا يعني أيّ إنتقاص من الملك الراحل، لكنّ ما لا بدّ من الإعتراف به، قبل أي شيء آخر، أن سلمان بن عبد العزيز ملك عصري وعملي في الوقت ذاته. ربّما أهم ما فيه أنّه يعرف المنطقة والعالم جيّدا ويعرف في الناس بشكل عام.
كان سلمان بن عبد العزيز مفاجأة لخصوم المملكة العربية السعودية أوّلا. ولذلك، لم يتردّد لحظة في التصدي للمؤامرة الكبرى التي كانت تستهدف المملكة إنطلاقا من اليمن.
أمضت السعودية سنوات طويلة في شبه غياب عن اليمن، في وقت كانت ايران تعمل ليلا نهارا من أجل تغيير طبيعة البلد، بدءا بتغيير طبيعة المجتمع الزيدي. فعلت ذلك عبر الحوثيين وغير الحوثيين بوسائل مباشرة وغير مباشرة. سعت حتّى إلى أن تكون لديها إختراقاتها في الوسط والجنوب الشافعيين…
لا تكتفي السعودية حاليا بإعادة ترتيب الداخل، حيث هناك مشاكل كبيرة، لكنها غير مستعصية، بل تعمل على إعادة التوازن إلى الإقليم. ليس صدفة أن الجهود السعودية لعبت دورها في إعادة الزخم للثورة السورية التي عادت تتقدّم في كلّ الإتجاهات.
هناك بكل بساطة قيادة جديدة في السعودية. هذه القيادة الشابة يرمز إليها وليّ وليّ العهد الجديد الأمير محمّد بن سلمان الذي فجّر قدرات سلاح الجو السعودي والآلة العسكرية للمملكة عبر “عاصفة الحزم”. هذه العاصفة ليست مجرّد حملة عسكرية يشنّها تحالف عربي على “انصار الله” في اليمن الذين عملوا ويعملون على تحويل البلد إلى مستعمرة ايرانية.
تتجدّد السعودية على كلّ المستويات. تتجدّد داخليا وعسكريا وسياسيا. قلائل، كانو يتصوّرون أن لدى المملكة هذه القوّة النارية وهذه القدرة على تغيير الحالة العربية التي تميّز أول ما تتميّز بحلول الميليشيات المذهبية التابعة لإيران مكان مؤسسات الدولة، بدءا بالعراق وصولا إلى لبنان مرورا بسوريا واليمن طبعا.
في أشهر قليلة، تغيّرت المنطقة. صار يحسب للمملكة حساب، كما في الماضي. انتعشت مصر. تعمّق التعاون بين دول مجلس التعاون في موازاة التنسيق المستمرّ مع المملكة المغربية والمملكة الأردنية الهاشمية. بدأ أخذ وردّ جديين مع تركيا التي لا يزال على رئيسها رجب طيب إردغوان التخلّص من الكثير من عقده، كي يعيد العلاقات العربية ـ التركية إلى ما يفترض أن تكون عليه وكي تلعب تركيا، بفضل موقعها وإمكاناتها، الدور الإيجابي المطلوب في مجال المساعدة من التخلّص من النظام السوري.
غيّرت السعودية نظرة الخارج إلى المملكة…غيّرت في المنطقة وغيّرت في العالم، خصوصا بعدما أكّدت أن لديها حساباتها الإقليمية التي قد لا تتفق مع حسابات الآخرين، بمن في ذلك الإدارة الأميركية.
ثمّة مجال للتفاؤل بعدما تبيّن أنّه ليس صحيحا أنّ العرب ليسوا الرقم الصعب في المنطقة وأنّ من السهل شطبهم من المعادلة الشرق أوسطية.
إلى أي حدّ يمكن الذهاب في التفاؤل؟ الجواب صعب، لكنّ الأكيد أنه في غضون أسابيع، تغيّر المزاج في معظم الدول العربية. التغيّر في المزاج ليس مبنيا على احلام وأوهام كما كانت عليه الحال في الماضي، أيام الناصرية والبعث والمقاومة الفلسطينية التي تريد تحرير القدس، عبر عمّان وبيروت، والشعارات الطنانة التي تتاجر بها حاليا ايران قائدة جبهة “الممانعة”.
التغيير قائم على معطيات ملموسة تترجمها “عاصفة الحزم”، من دون الإستخفاف بالصعوبات الداخلية وما خلفته سنوات طويلة من الجمود. في تلك السنوات، لم يكن من يتجرّأ عن المسّ بالبرامج التربوية والتساؤل: ما الذي نعلّمه لأولادنا ولماذا تخرّج إرهابيون من مدارسنا؟
نعم، إلى هذا الحدّ تغيّرت السعودية.